ردّدوها معي : ” لأنه فنّ لأنه فنّ لأنه فنّ ” .


بــَـــذْر
آدم , الرّجل معجونٌ بالذّنب , من أعلى رأسهِ حتّى أخمص قدميه , بالأكلِ من الشّجرِ المحظورِ عليه , آدمُ مشغولٌ بالتّفاح ; الذي يتوقف دوماً في حنجرته , لم ينزل هذا التّفاح , لم يصعد حتّى يرتاح , مشغولٌ بالسّوءات , وخطايا كثيرة وحكايات , الله قرّر أن يخلق شيئا مختلفاً هذي المرّة , أن يصنع مخلوقاً قابلَ للقطف , آدم كان بلا لونٍ , كان بلا طعمٍ , وبلا شكلٍ , صلصالاً أجوفْ , يدخل فيه الرّيح يخرج منه الرّيح , ونام عشر سنين , لم يتحرّك حتّى مزعَ الله ضلعاً من تحت ذراعه , ثمّ كوّن ساقا , ثمّ كوّن غُصناً , ثمّ كوّن شجرة , ثمّ طرحت حوّا في يومين .

————————

حــَــرْثــْــ

[ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ]

سورة يوسف | آية ( 23 )
————————


هيت لك :
تعني بِالسُّرْيَانِيَّةِ : عَلَيْك , وبالقبطية وبِالْحَوْرَانِيَّة :هَلُمَّ لَك , وتَهَيَّأْت لَك , ..
وتعني بالعربية : هِئْت ..
كل هذه التفاسير الحورانية , والعربية , والسريانية صحيحة .
لكن لم يشدّني , ولم يعنيني , ولم يهمّني إلا معنىً واحد أعرفه .
أعرفه بالفطرة وأعرفهُ بالنوايا الطيّبة , وأعرفهُ بخبرة عاشقٍ قديم ..
معنى بسيط ومباشر وواضح :

” تعال “ ..
لمّا خلق الله الإنسانَ آدم , وخلق منهُ حوّاء ; نزَع جسداً من جسد , وروحاً من روح , ..
وفي عملية الجنس _ الآن _ نحن الرجال أولادَ آدم ; نزرع أجساداً في أجساد , ونبثّ أرواحاً في أرواح .

نحن لا نقوم بعمل الإله هنا ..
في الحقيقة نحن نقوم بعمل الفلاح , والمرأة تقوم بدور الأرض , والله يقوم بدوره كاملاً ..
وأنا سأكتبُ لكم عن كلّ ذلك .
لكن التأثير يظلّ نفسه :
نفس الخوف , نفس القلق , نفس الصّبر , نفس التعب , نفس الدّهشة , نفس الرّهبة , نفس المُتعة .


في القول السائد ( الذي لا أتفق معه ) :
” الرجل يرى أن ممارسة الجنس مع المرأة غاية , وأنّ المرأة ترى أن ممارسة الجنس مع الرجل وسيلة “.

أنا أقول أن المرأة هي الغاية , والرجل هو الوسيلة ..
.
.
للحبّ .
هكذا أستطيع أن أقول أن ( فعل الحب ) أو Making Love مع الحبيب في وقت مُناسب , وفي مكان مُناسب , وتحت ظرف مُناسب ..
يماثل تماماً أن يسترق طفلٌ صغيرٌ النظرَ إلى الجنّة للحظاتٍ قصيرة جداً .
.
.
بمساعدة ملاك .

مايعني أنه :
” مُدهِشٌ كالفرودس , سريعٌ كالحُلم , ولا يُصدّق كمعجزة ” .! .
هذا الطفل هو الرجل , والملائِكة هم من يسرّب العُشّاق الصغار كلّ مرة إلى رحم المرأة , إلى الجنّة ..
والله يُراقب كلّ هذا بهدوءٍ تامّ وحِكمة شديدة .



ممارسة الجنس بين أيّ اثنين كعلاقة عابرة ; تشبهُ الجلوس على رصيف الانتظار في أيّ محطّة قطار ..
في حين أنّ ممارسة الجنس بين أيّ حبيبين تشبه الصّعود على القطار نفسه معاً , والمُرور على كلّ محطّة معاً , والنّزول في المحطّة الأخيرة معاً .

إن ممارسة الجنس بين حبيبين تبدأ دوماً ولا تنتهي , وممارسة الجنس بين عابرين تنتهي قبل أن تبدأ .

ممارسة الجنس بين عابِرَيْن محطّة في رحلة , وممارسة الجنس بين عاشقين هو الرّحلة نفسها .



إن لحظة الاتّحاد الجسدي بين معشوقين ..
هذه اللحظة المنتظرة , والهامّة , والمرعبة , والغريبة , والجميلة ..
تشبهُ تماماً لحظة طعن البرق للسحاب ليمطر , لحظة ضرب الفلّاح الفأس في الأرض لتثمر , لحظة ” رشّ ” الفنّان أول بقعة لونٍ بريشته على اللوحة ليرسم .

” فعل الحبّ ” مع الحبيب يتطابق تماماً في حقيقته مع ما ذكرت أعلاه :
لأنهُ مطر , لأنه حَصاد , لأنه فنّ لأنه فنّ لأنه فنّ .
ردّدوها معي :

” لأنه فنّ لأنه فنّ لأنه فنّ ” .
ولأن المرأة غيمة , ولأنّ المرأة أرض , ولأنها قُماش ” كانافا ” معتّق جداً , وخامْ جداً , وغالٍ جداً ..
لأنّها كلّ شيء , لأنّها كلّ شيء ..
كانت لحظة الوِصال بالنسبة للرجل العاشق أهمّ , وأجملَ , وأصعبَ , وأخطرَ , وأمتعَ لحظة في هذه العلاقة الحالمة التي نسميها :

” حب ” .


إن الشبه بين العملية الجنسيّة والزّراعة كبير جدا ; حيث المطر , حيث الخصوبة , حيث الحصاد ..

رحم المرأة يشبه بطنَ الأرض , لم أشكّ في ذلك لحظة ..
كلاهما خصب , كلاهما مُنتج , كلاهما يطرح ثمراً في موسم الحصاد ..
الفرق الوحيد أن العملية الجنسية يستمتع بها اثنان فقط ..
بينما الزراعة هي عملية مُعاشرة تتم بين السماء والأرض , ..
ويستمتع بها طرفٌ ثالث :

الفلاح .
لكن ليكن في علمكم , أن هناك أطراف أخرى غير مرئية , وعالية جداً , وقوية جداً , ونورانية جداً , وسيّدة جداً , وشفّافة جداً , وخيّرة جداً .. قد يسعدها ” فعل الحب ” بين اثنين أحبّا بعضهما بصدق ..

الإله , والملائِكة , وأرواح العُشّاق القُدامى في السّما , و ..
أنا .


أخيراً , وحتّى نقف خارج ” كادر ” الرومانسيّة , أقول :

تقول المرأة ” لا ” .! , وهي تتصوّر العملية الجنسية بالكامل مع الرجل الذي تحبّ .
ويضع الرجل المرأة التي يحبّ على السرير قبل أن تقول ” نعم “

————————

جـَــنـْـيْ

– الثّمر النّاضج جداً ; لا يعجبني , ..
أجني عنباً ; بعد كثيرٍ يذبل , ثمّ زبيباً آكله بمنقاري .

شيءٌ من الكلامِ المُبَاح

من يقول أن الرجل كائِن بصري وأن المرأة كائِن سمعي ; يجب أن يقرأ كتاب ” ألف ليلة وليلة ” .. والآن .

لأن امرأة واحدة قلبت هذه النظرية تماماً .
تلك المرأة التي كان اسمها شهرزاد ; جعلت رجلاً كان _ دون أي تردّد _ يُعدمُ كل يوم امرأة لأنه ( رأى ) زوجته تخونه مع أحد عبيده ; ينصت لها .
ينصت لها بكل تركيز , وبكل اهتمام , وبكل دهشة , وبفضول شديد , .. لأكثر من ألف ليلة متّصلة ..

أنصت لها لأكثر من سنتين ونصف , ..
أنصت لها , واكتشف في آخر الأمر أنه لم يعدمها , واكتشف أنه نسي الموت , وأنه نسي الخيانة , وأنه نسي العذاب , ونسي الشكّ , والغضب , والكُره , والانتقام ..

و.. أنجب منها .

 

هذا الرجل اكتشف بعد مرور أكثر من سنتين ونصف ; أنه نسي زوجته الخائنة , ونسي الخادم الأسود الذي مارس معها الجنس , ونسي ضحاياه السابقات اللائي قطّع رؤوسهنّ واحدة تلو الأخرى , نسي القتل , نسي الدمّ النّافر من أعناقهنّ , نسي الرؤوس المتدحرجة تحت أقدامه ..
نسي كل شي .. كل شي ..

هذا الرجل ظلّ صامتا لألف ليلة وأكثر ; ليستمع لامرأة واحدة فقط .
لم ينطق بكلمة واحدة أمامها , لم يتحدث لأحدٍ في غيابها , لم يستمع لأحد في حضورها ..

لم يفتح فمه إلا ليأكل , أو ليتنفّس .
وأعتقد جازماً أنّه لم يقابل أيضاً أيّ أحد , ونسي مملكته كلّها حتّى تنتهي حكايات الستّ شهرزاد .

ظلّت دولة الخلافة دون حاكم لألف ليلة وليلة .
لِـمَ تفرّغ شهريار كل هذه الفترة الزمنية ليسمع حكايات ما قبل النّوم .؟! .

لأنه كان يعاشر امرأة كانت الأذكى , والأقوى , والأجمل , والأكثر سيطرة والأكثر حكمة , والأوسع حيلة .
دخلت قصره بخطّة بسيطة , بسيطة جداً , أبسط مما تتخيّلوا :

” أن تتكلّم ..

 

نعم .!

.. دون توقّف ” .

 

 

كيف استطاعت هذه المرأة أن تعيش كل هذه المدة دون أن يقرّر شهريار ولو للحظة , ولو للحظة أن يقطع رأسها .؟! ..

كانت تُنهي حكاية كل ليلة عند عقدة , وتحل العقدة في بداية الليلة الثانية .
ثم تصنع عقدة أخرى قبل حلول الفجر , لتحلها في مساء اليوم التالي .
وهكذا .! , ..
هكذا كانت حياة هذا الرّجل _ شهريار _ لحوالى سنتين ونصف أو تزيد , مجموعة من العُقد تربطها تلك المرأة بمهارة فائقة , وتحلّها نفس المرأة في اليوم التالي بسهولة لا تُبارى .
ألا ترون معي …
ألا ترون ؟! ..
تلك هي حياة كل الرجال في كل الدنيا , وهذه هي قصّتهم مع أي امرأة عرفوها .
المرأة الشاطرة هي التي لا تريح الرجل , لا ترمي ورقها كله مرّة واحدة .
هي التي لا تحلّ كل عقد الرجل في ليلة واحدة , ولا تربطها في ليلة واحدة .
المرأة الذكية هي التي تترك طرف الحبل للرجل عند عتبة القلب , حتى يثيره الفضول فيدخل , ثم تغلق القلب وراءه …
بالضبّة والمفتاح .

وكلما خرج , رمت له حبلا آخرَ جديداً ..
لو تعلم النساء أنّ الرجال كالسّمكِ في الماء يسهل اصطيادهم بسنّارة تحمل طعماً واحداً , واحدا فقط دون غيره ..
” الفُضول ” .! .

الرجل لا يطيق الارتباط الكامل , كما لا يجب أن تتركه المرأة حرا بشكل كامل ..
لذلك يجب أن تحتفظ المرأة بالكثير من الحِبال , وتتعلم ربط الكثير من العُقَد ..

 

 

خمنوا ماذا حدث ؟!

هكذا فعلت شهرزاد .

كانت كل ليلة تنسج خيوطاً متشابِكة من الحِكايات التي لا تنتهي , وظل شهريار يشتغل كل ليلة في محاولة حلّها لسنتين ونصف , وعند العقدة الأخيرة ..
عند العقدة الأخيرة تحديداً ..
اكتشف أنّ طرف الحبل كان في يدّ شهرزاد طول هذه المدة ..
كانت تلك المرأة تعرف أن فضول الرجل سيغلب انتقامه , وأن حبه للنهايات المعلّقة , والمفتوحة , والمحيّرة , والغامضة , والمبهمة سيتفوّق على حالة الملل التي يتميّز بها الرجل عن المرأة ..

لذلك فإن الرجل الذي يملّ من علاقته بالمرأة بسرعة , هو رجل ارتبط بامرأة ( لا تحلّ ولا تربط ) .

 
إذا أردتم أن تعرفوا كيف تسيطر المرأة على الرّجل .! ..
يجب أن تجلسوا معي كل ليلة لتستمعوا إلى شهرزاد وهي تحكي وتحكي وتحكي .

عندما تفتحوا هذا الكِتاب ستخطفكم حالاً إحدى الجنّيات التي تسكنُ داخله , وتنقلكم للعالم الآخر .
عالم السّحر , عالم العفاريت , عالم العشق , عالم الملائكة , عالم الجنس , الخديعة , الدسيسة , الشعر , الموسيقى , العطر , الأغاني , الحُزن , الفرح , البُكاء , الخيال , القسوة , العنف , الدّم , الخمر , الحنان , الرقّة , الدهاء , الطيبة , و .. الشّر , الشرّ المطلق .. والخير , الخير الذي يسود ..
أو .. دعوني أختصر لكم هذا كله ..

إلى عالم المرأة .

المرأة التي تحكي .! ..

تحكي وحسب .

العِشقُ عارياً

فأشهد عند الله أني أحبها *** فهذا ما لها عندي ، فما عندها ليا ؟! ..

قيس بن الملوّح .

————————–

ماذا حدث .؟! ..
مالذي جعل رجل , عاقل , جميل , وشاعر ; يُجنّ , ويخلع ملابسه , ويمشي عارياً في الصّحراء .؟! .
مالذي جعل ” قيس بن الملوّح ” يقرّر فجأة , وفي لحظة حاسمة سجّلها كلّ المؤرّخين , وكلّ المهتمّين بتدوين حكايات العشّاق , وقصّها كلّ حكّائي الدّنيا ; يقف , ويبدأ في إلقاء ملابسه قطعة قطعة , أمام النّاس , ويتمشّى ” عِرياناً ” لأسابيع ; في سابقة لم تحدث على الإطلاق في مجتَمع عربيّ قَبَليّ ومحافظ ..
لماذا لازمتهُ الحُمّى حتّى مات ؟! , ..
لماذا كان يضحك ويبكي في نفس الوقت ؟! , ..
لماذا كان يهذي بإسم ليلى ؟! , ..
لماذا كان يلعب بالتّراب , ويكتب اسم ليلى على التراب , ويحثو التّراب على وجهه , وعلى شعره , وعلى جسده , وعلى الآخرين ؟! ..
لماذا كان ينام ويأكل ويعيش مع الحيوانات , والطيور , ووحوش الصحراء .؟! .
ببساطة , وللأسف الشديد , الشديد بالفعل :
إنّهُ العشق .!

السؤال الأهمّ :
هل هناك امرأة تقدر على فعل ذلك ؟! .
ببساطة أيضاً , ولحسن الحظّ هذه المرّة :
( لا ) .! .
لأن المرأة تخبّي حزنها حتّى عن نفسِها , والرجل يُعلن حزنه لكلّ النّاس .
المرأة تعرف أن حُزنها سيسبب فضيحة , والرّجل يفتعل فضيحة ليقول لكلّ العالم أنّه في حالة حزن .
لذلك نجد أن المرأة أكثر تكتّما على مسائل الفُراق , والرّجل أكثر ثرثرة ..
لذلك نجد أن المرأة أكثر تماسكاً , والرّجل أكثر انهياراً ..
لذلك المرأة هي الأطول عمراً , هي الأطول صبراً , هي الأطول نفَسَاً , وهي الأقصرُ حبّاً ..

لكنّها تنهار في النّهاية , تسقُط من علوّ بعيد هي وكلّ سرّ حاولت أن تُخفيه , بينما الرّجل يقف على قدميه لينكر كلّ ما فعله في لحظة كبرياء , ..
غالباً , أستطيع أن أؤكّد أنّ تلك اللحظة قد يكون أوانها فات للأسف الشديد .

 
بطريقة أخرى , مالذي تفعله المرأة إن تحطّم قلبها ؟! :

” تشتري ثوياً أنيقاً ” .! .

المرأة تخلع حُزنها وتقف عارية أمام نفسها فقط , ثمّ تخرج للنّاس وهي ترتَدي أكثر ثيابها أناقة ..
لا بُكاء , لا وجع , لا انكسار , لا تعب , ولا دموع .
مالذي يفعله الرّجل إن تحطّم قلبه ؟! :
قد يصبح أكثر عُنفا , قد يصبح أكثر جنوناً , قد يصبح أكثر تهوّراً ..

وأيضاً ..
قد يُلقي كل ملابسه أمام المارّة في مكانٍ عام .

نعم , تماماً كما فعل قيس بن الملوّح .

الرّجل يتعرّى .. يَ تَ عَ رّ ى .

الرّجل يُلقي كل شيء أمام العالم ..
يلقي حبه , يلقي حزنه , يلقي عقله , تاريخه , كرامته , هيبته , سمعته … و… ملابسه إن لزم الأمر ..
أنا هنا لا أتكلّم عن الشّعور الداخلي ; الذي قد يختلف في واقع الأمر .
أنا هنا أتكلّم عن الشّعور الظّاهر للنّاس .

 

لكن قبل ذلك ..
وتحديداً قبل الحدث الأهمّ , والأغرب , والأكثرَ إحداثاً للدّهشة , أعني قبل أن يُلقي قيس أوّل قطعة من ملابسه , قطعة الملابس تلك التي حوّلت قصّة حب عاديّة إلى قصّة حبّ متفرّدة , ومثيرة , ومهمّة ..

هل سمعتم في التاريخ الإنساني عن امرأة جُنّت , عن امرأة قتلت , عن امرأة تاهت ..
من أجل رجل ؟! .
قد يندر أن يحدث ذلك .
إنّما المرأة التي جُنّ الرجل من أجلها , وقتل من أجلها , وتاه من أجلها , وفقد كلّ شيء من أجلها ..
ولكي أكون أكثر وقاحة ..

وتعرّى من أجلها .. لا تُبالي , أبداً لا تُبالي .

 
كما ترون ..
فالرّجل ; آدم ; صُنعَ ببراعة شديدة , وبدقّة بالغة , وبحكمة لا متناهية , وبعبقريّة لا تُضاهي ..
صُنعَ ليتحمل المرض , ليتحمّل الهزيمة , ليتحمّل الوجع , والحُزن , والغربة , والمسئوليّات الكبيرة .

صُنع ليتحمّل البرد القارس , ليتحمّل الحرّ الحارق , ليتحمّل الحوادث , ليتحمّل الطّعنات , طلقات الرّصاص , الجِراح الغائِرة , ضربات السّياط , الصّلب , التعذيب , الحرق ….

قد يتعرّض للقتل لكنّه ينجو , قد يتعرّض للفشل لكنّه ينجح , قد يتعرّض للمرض لكنّه يشفى , قد يتعرّض للموت ; لكنه يموت بهدوء , وأناقة , وكرامة , وشجاعة ..

في الواقع صُنعَ الرجال ليتحمّلوا أشياء كثيرة , كثيرة , كثيرة ..
لكنّ فُراق الحبيب ليس أحد هذه الأشياء .. بالتأكيد .

 
رجل واحد فقط , لم تغلبه امرأة .
رجل واحد عرف أنّه إن ذاب في العشق , سيتخلّى عن أقدّم , وأوّل , وأهم , وأعلى صفة أعطاها الله لآدم , سماويّته .
هذا الرّجل أنكر المرأة , ليدّعي النبوّة .

” أبو الطيّب المتنبّي ” .

 
المرأة لا تقتل من أجل من تحب , المرأة تقتل من تحبّ
كما فعلت سالومي الراقصة , التي أحبّت ” يحيى ” , ثمّ حرّضت على قطع رأسه , وقُدّم إليها على طبق من فضّة .

كما أنّها قد تسجنه كما فعلت زُليخا .
وقد تقوده إلى الجنون مثلما حدث لقيس , قد يموت بالسم مثل روميو , أو قاتلاً ومنتحرا مثل عطيل , ..

راقبوا ما يحدث في هذا العالم .
يعلّق الرجال على المشانق من أجل المرأة , ويُردون رميا بالرّصاص من أجلها أيضاً , وتقطع أعناقهم , وأياديهم , وأقدامهم .. كلّ هذا يحدث من أجل امرأة .

تلك المرأة .! ..
آآآخ .! , تلك المرأة التي تطوي ذكرياتها مع هذا الرّجل بعد موته , أو غيابه , أو جنونه , أو مرضه , ثم تلقيها خلف ظهرها كصحيفة أمس .

 

 
في التاريخ .. نحن نخلّد الرّجال , ..
أحياناً لأنهم أكثر عشقا , أحيانا لانهم أكثر كرها , ..
أحياناً لأنهم أكثر تهوّراً , أحيانا لأنهم أكثر رزانة , .. أحياناً لأنهم أكثر شفافية , أحيانا لأنهم أكثر غباءًا .. أحياناً لأنّهم أكثر حُزناً , أكثر بهجة , أكثر فُروسيّة , أكثر خيبة , أكثر شجاعة , أكثر موهبة , أكثر نزقاً , أكثر إبداعاً ..

 

ولكننا غالبا ما نخلّدهم لأنهم فعلوا ما لم نستطِع أن نفعله نحن :
” جُنّوا ” ..

” جنّوا ” :
يشكّ بعض المؤرّخين في وجود ليلى العامريّة في الأساس .! .

قـُـبـَـل و نـِـصـَـال

” يهوذا ..!
أ بقبلة .! , تسلّم ابن الإنسان ؟! ” ..

السيّد المسيح

——————————–

الحب لا ينتهي بالفراق , الحب ينتهي بالخِيانة .
وربما بقبلة ..

تصبح الأشهر في التاريخ .

مثل يهوذا .

إذ أنّ الخائِن الذي يغرس خِنجره في القلب تماماً , لا يعرف أنّه قبل أن يطعننا طعنَ نفسه ; لأنّه كان يسكن القلب , هناك حيث يصل نصلُ الخنجر ..
ويموت , ونموت , ويموت الحبّ .

لهذا أقول بعكس الاعتقاد السّائِد أن الخِيانة طعنة تأتي من الظّهر ; أنا أعتقد أن الخيانة لا تأتي إلا من الأمام , ومن شخصٍ أسكنتهُ قلبك , وأعطيته حُضنك , وأدرتَ لهُ خدّك الأيمن ليصفعه .

الطعنة من الأمام تقتلك في اليوم ألف مرة , لا لأنّك رأيت وجه قاتلك .. لكن لأنّك تمنّيت لو لم ترَه .

لأنّ وجهه , وضحكه , وكلامه , وأحضانه , وقُبلاته , ودموعه , التي كانت ..
ستطاردكَ طول العمر , طول الجرح ..
وقتها ننسى الطّعنة , ونتذكّر اليدّ التي صافحناها .
ننسى الخنجر , ونتذكّر باقة الورد التي رتبناها .
ننسى حتّى اليوم الذي بصقوا فيه في وجهِنا , ونتذكّر الشفاه التي قبّلناها .
إنّ ما يقتلنا ; أنّنا وفي اللحظة التي نُطعن فيها , في هذه اللحظة الدقيقة والتافهة والقصيرة من عمر الوقت , وتحديداً أوّل ما يخترق رأس الخنجر أوّل طبقة من شغاف قلوبنا , .. في تلك اللحظة ; لا نُحسّ بألم الطّعنة .. ” تسرقنا السّكّينة ” , في تلك اللحظة المُرعبة والمخيفة , لا نفكّر إلا في من أحببناهم , وكيف أحببناهم , ومتى أحببناهم , ولماذا هم الآن وفي هذه اللحظة الصّادمة , لماذا في هذه اللحظة تحديداً ; يذبحوننا ..
نفكر فيهم , بالضّبط في الوقت الذي يغرسون فيه أصابعهم العشرة بين أضلاعنا وينتزعون قلوبنا , وأكبادنا , وأرواحنا , ويُنهون قصّة حبّ في لحظة غدر .

الدمّ النازف منّا لا يقتلنا , إن ما يقتلنا حقيقة هو الذكريات الجميلة التي تنزّ من مكان الطعنة , ببطء شديد , ..
نظرة نظرة , ضحكة ضحكة , كلمة كلمة , لمسة لمسة , ضمّة ضمّة , قبلة قبلة ..
حبّنا كلّه ينزف من ذلك الثّقب الضيّق , الضيّق جداً , جداً ..
وهذا يؤلم ..
لذلك ; نحن ننسى أي مخلوق في الدنيا ; أسرع مما ننسى حبيب خائن ..
لأنّهم نظروا إلى أعيننا وهُم يغرسون خناجرهم في قلوبنا , وهم يطلقون علينا الرّصاص , وهم يركلون من تحتنا الكراسي لكي نموت شنقا وعشقا وحسرة ووحدة ..

نظروا إلينا بكلّ جرأة , وبكل قسوة , وبكلّ تحدّ , وبكل غدر , وبكل دناءة , وبكلّ صفاقة .! ..

ولهذا قبّل يهوذا المسيح قبل أن يسلّمه للرومان , كان يقبّله وكان يضمّه , و .. كان يخونه .! ..

وقال يا معلّم , ثم أشار إليه .
في تلك اللحظة الأكثر ألماً , والأكثر غدرا , والأكثر غرابة في التاريخ الإنساني ..

خان يهوذا المسيح من الأمام .

ولهذا قال يوليوس قيصر جملته الأشهر لما طعنه بروتوس من الأمام أيضا :
” حتّى أنت يا بروتوس , إذن فليمت قيصر ” ..

ولهذا نموت كلّ يومٍ , وكلّ ساعة , وكلّ دقيقة , وكل ثانية ..
نموت ونحن نتلقّى القُبَل , والأحضان , ثمّ الخناجِر التي يدسّها الأحباب في صدورنا ..

 

عندما تحدث الخيانة ; تبدأ في ترتيب ذكرياتك مرة أخرى .
لأن الملاك في قصّة حبّك صار الشيطان , ..
لأنّ القبلة التي تلقيتها على خدّك صارت صفعة , ..
لأن الضحكة التي سمعتها صارت سخرية , ..
لأنّ الكلام كذب , لأن الغناء أنين , لأن الحُضن كفن .

 

الخيانة لا تحدث إلا من الأمام , من الأمام , من الأمام ..
إحفظوها جيّداً ..
حتّى إن سقطنا على الأرض يُمكن لهم أن يدوسوا على أقدامنا , على صدورنا , وعلى جباهِنا ويعبروا لقلبٍ آخر ..

 

———————————

 

نصل
[ أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ , لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ .
خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ ؛ وَاغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا، لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضاً نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا ؛ وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ ] !

يهوذا الخائِن , قبّل السيّد على خدّه الأيمن , وعلى خدّه الأيسر , ثمّ أشار إليهم ليأخذوه .
ليقبّلوني كلّهم , ولا يأخذوني منك

 

 

قبلة

وأنا يا امرأة شفتيّ أحلى من السكّر ,
تًنبت عشبا على كفّيكِ وتُجري على خدّيك نهر ,
أنا قبّلت خدّيكِ , أنا قبّلت شفتيكِ , وقبّلت يديكِ , ثمّ أشارَ يهوذا إليّ , وأخذوني

 

نصل

إنّي أحبّك يا سيّد , هات جبينك عند فمي , هات يمينك عند يميني , هات الصّدر هاكَ السكّين

 

قبلة

قبّل شفتي السّفلى , خُذني .. قبّل شفتي العليا , خذها , ..
– وأنا ؟ أخذوني يا امرأةً أعطيتكِ صدري , وأعطوكِ ذراعي ..

 

نصل

الخوَنة يكفيهم رأس نبيّ , ولا يكفيهم رأس الشّاعر , ….

 

قبلة

الفمّ يخون , الخدّ تُراب , العين تقول , الدّمع سراب .

 

نصل

الشّعر خيانة , الشّعر وطن .
أهرب منه , لأعود إليه , أشي بهِ , لأكتب عنه

 

قبلة

يا أبي .

ما قرأتَ رسائلي ؟! ..
منذ قليل .!

الرّيح ترفع راحتيّ إليكَ
حُطّ عليهما غيما , ورشّ عليهما زنجبيل .

 

نصل

وأنا أكتب هذا الآن , يدّي خانت قلبي
وأنتم تقرأون هذا الآن , تخونكم مشاعركم ..

نـوح وبـروتـوكـولات الـفــراق

 

قبل آلاف السنين ..

هناك ..
حيث المعصية , حيث الخيانة , الدّسيسة , المؤامرة , والغدر ..
على أرض قاحلة , لا مطرَ ينزل عليها , ولا نهرَ يمرّ بها , ولا بحرَ تطلّ عليه ..
حيث لا برد , ولا سلام .
على هذه الأرض التي تشبه قلوب العاشقين في الأرض ..
كان نجّارٌ اسمهُ نوح يبني سفينة , وقبيلة كاملة تسخر منه .

نوح الذي أحبّ قبيلته , كان يؤمن بشيء غامض , وقبيلته تكفر بشيء جليّ وواضح ..

نعم , ..
كالجدل الذي يحدث دائماً بين من يقع في الحبّ , وبين من لم يعرفه ..
يزداد الحبّ غموضاً لمن وقعوا فيه , ويزداد الحبّ وضوحاً لمن لم يتورّطوا به ..
هذا هو الكمين الذي تنصبه ملائكة الحبّ دوماً ..

دائما نحن ننظّر في أمور الحب ونحن خارجه , ..
ثم نسأل الآخرين عنه بعدما نتورّط فيه ..
في ذاك الوقت ..
بكت السّماء شهوراً طويلة , بكت بعنف وبقوة وبغزارة ودون توقّف ..

غادر نوح قبيلته , كما يغادر كلّ العشاق .
غادر حزيناً , وحيداً , محطّمَ القلب , مكسورَ الجَناح , مخذول , غير مصدّقٍ , ..
و .. متعب .. متعبٌ جداً .. جداً .

لم يصدّقه أحد , كما يُنكرنا الآخر دوماً .
لم ينتبه له أحد , كما يتجاهلنا الآخر دوماً .
لم يهتمّ به أحد , كما ينسانا الآخر دوما .

 

وكما حدث وقتها ..
يومَ بكت السّماء , وبكى نوح , وبكت الطيور , والوحوش , والخِراف الصغيرة , والأشجار , والجبال .
نحن نبكي أيضا عند الرحيل , عند الخذلان , عند الفراق , عندما يكفر بنا من أحببناهم ونكفر بالحبّ من بعدهم ..
نبكي دون توقّف حتّى ينتهي كلّ شيء ..
حتّى يفيض الدّمع , ويُقضى الامر ..
ثم نرحل ومعنا القليل من الذكريات , القليل فقط ..
لأن الكثير قد يقتل ..
نأخذ معنا ما يكفي لإنشاء حياة جديدة .. تماما كما فعل نوح .
بينما انغمست قبيلة نوح في المعصية , في الرذيلة , في الخطيئة ..
انتهت العلاقة بين نوح وقبيلته ..

هكذا تنتهي كل العلاقات الكبيرة .
تنتهي بغضب , تنتهي بعنف , بقوة , بقسوة , ودون رحمة ..
وفي مشاهد أقل ما يُقال عنها أنّها مأساوية , ومرعبة , وصادمة , ومذهلة , ومخيفة ..
أغرق الله الأرض بالكامل ورحل نوح ..
بكت السّماء كلّها , بكاءَ غضب ..
الملائِكة كانت غاضبة , الشياطين كانت خائفة , والطّيور في السّما كانت تحلّق دون توقّف , والله يراقب الموقف ..

وهكذا كما كان يحدث من بداية التاريخ ..
رحل نوح , مثلما رحل لوط قبل أن تنهمر النيران من السماء على قبيلته ..
وغرق آل فرعون بعد أن شقّ موسى البحر ورحل ..
ورحل محمّد من مكة إلى المدينة , ورُفع عيسى للسّماء , وهام إبراهيم على وجهه بين أور وفلسطين والحجاز ومصر , وقُتل يحيى , واختفي إدريس ..

إنّ الفراق أيضاً يشقّ القلب , ويحرقه , يعيّشنا في حالة كبيرة وطويلة من التّيه , وقد يقتلنا أحيانا , يفعل بنا كلّ شيء , كلّ شيء …

كل الأنبياء غادروا , أو اختفوا , أو قتلوا ..
بمعنى أدقّ :
رحلوا , كل نبيّ رحل بطريقة مبتكرة وخاصّة , أو غامضة ..
بعد أن مرّوا بتجارب حبّ فاشلة مع ذويهم .
وكلّ العشّاق يرحلون , أو يموتون , .. أو يختفون في ظروف غامضة ..
بعد أن يمرّوا بنفس التجربة .

تماماً ..
هذا ما يحدث عندما ينهار كلّ شيء ..
عند الغدر , أو الخيانة , أو الفراق , …. بكاء .. ودموع , وعذاب وعذاب وعذاب .
يجب أن تعلموا أن بكاء الحبيب المستمر , والكثيف , والمتواصل , والصادق .. عذاب .
عذاب لنا , وعذاب للآخر .
لكنّ عذابنا يبدأ ببكائنا , ثمّ ينتهي ..
وعذاب الآخر يبدأ عندما ننتهي من البكاء .. يبدأ عندما نمضي .
عندما يتوقف المطر , ويغيض الماء , ويُقضى الأمر .
عندما خُذل نوح لم يغادر وحده , وإلا لفَنى , وفنى الجنس البشري كلّه ..
ولما كنتم الآن على هذه الدّنيا تقرأوني الآن ..

غادر ومعه القليل من كل نوع ومن كل جنس ومن كل صنف ..
الخِراف , الحمام , العصافير , الخيول , الصّقور , الكلاب , القردة , الفيَلة ..
حتّى الحشرات الضارة , حتى الحيوانات المفترسة , حتّى الزواحف السامة ..

ونحن أيضاً عندما نغادر , يجب أن نغادر ومعنا القليل من كل شيء ..
القليل من الذكريات , من الآلام , من اللحظات الجميلة , من الضحك , البكاء , الحزن , السعادة , التعب , الراحة ..
يجب أن نأخذ القليل حتى نعيش .
لأننا لو أخذنا كلّ شيء قد نموت كمداً ..
ولو غادرنا فُرادى , نموت حسرة , ونموت وحدة ..

هكذا يجب أن نأخذ معنا بعض ذكرى ..
الذكرى الحلوة والمرة , الحزينة والسعيدة , المؤلمة والمريحة , الضارة والنافعة , حتّى القاتل منها يلحق بنا في آخر الرّحلة ويتسلّق حبل المَرساة ويغادر معنا خِفية في جنح الظلام .
إن لم نرفع المرساة بسرعة سترافقنا كلّ الذكريات القاتلة طول الرحلة , إن لم نغادر بسرعة سنشقى ..
يجب أن نغادر إن خُذِلنا , ولا نكابر ..
المكابرة وقت أن وجب الرحيل انتحار , لا جبال تعصمنا من الماء .. وقت أن مات ابن نوح كان يكابر , صعد للجبل الأعلى في المدينة وقال :
” يعصمني من الماء ” , ثمّ غرق ..
لأن مدّ الحقيقة كان أعلى , لأنّ صوت الغضب كان أقوى , لأن يد الخالق كانت أكثر طولاً ..
كان يجب أن يؤمن بالله ويرحل مع أبيه , ومع بعض الذكريات البسيطة ..
هكذا يجب أن نفعل , يجب أن نؤمن بالحبّ وإن كفر بنا , ثم نرحل

إن فورة التنّور كانت علامة الله لنوح ليستعدّ للرحيل , وحُرقة القلب علامة الله للعشاق ليستعدوا للمغادرة ..
إنّ المطر المستمر دون توقف كان علامة الله لنوح ليرحل , والبكاء المستمر دون توقف علامة الله للعشاق ليرحلوا ..

وقت أن نبكي يجب أن نترك كل شيء وراءنا إلا مايبقينا أحياء .
دون أن نلتفت للخلف , نوح بعد أن عصاه ابنه لم يلتفت إليه _ في المشهد الأخير _ ونجا , لوط لم يلتفت باتجاه سدّوم وعموريّا ونجا , وامرأة لوط قرّرت _ في الطريق إلى خارج عمّورية _ أن تلتفت وتُلقي نظرة أخيرة على ذكرى أخيرة فسخطها الله تمثالَ ملح .

لذلك ..
فالملح الذي ينزّ من أعيننا ويشق طريقه إلى قلوبنا , يحدث لأننا نلتفت , لأننا نتذكّر .

الذكرى بقدر ما تقتلنا في بداية الأمر إلا أنها تبعثنا من جديد
في قوانين العشق والعشاق , من يغادر ساحة الحبّ وحيداً يموت وحيداً

 

 

الفراق مرحلة منهكة , وجميلة أيضاً في عرف الغرام
الفراق عملية صعبة , صعبة جداً بل أحيانا قد تكون قاتلة
الفراق هو المرحلة التي يعرف كل عاشق أنه سيمر بها , ومع ذلك يحاول أن يتحاشاها بكل ما أوتي من قوّة

وكأنه يحارب القدر نفسه , .

لا يعرف أغلب العشاق أن الفراق بالنسبة للعارفين بأمور الغرام هو مرحلة كما فيها الكثير من العذاب ففيها الكثير من المتعة , مُتعة لا نريدها , ولا نتحكم بها , ولا نتوقّع متى تنتهي , ونحتار كثيراً في التمنّي :
هل تنتهي , أم لا تنتهي ..
سيما لو آمن الآخر بأن من يشاركه قلبه هو حبيب العمر , حيث أن السهر والتفكير والتعب والبكاء واللّوعة والهيَمان في صورة وصوت الحبيب تعدّ متعة لا تضاهى , متعة تشبه العبادة وتشبه الصلاة تماما

حيث الخضوع , حيث الدعاء , حيث المناجاة , والرجاء , والأمل , واليقين بالاستجابة .

هذه المتعة لا تتأتّى إلا بالفراق , ولا يمكن أن تحدث خلال الوصال بهذه الكثافة , وهذا التركيز , وهذه المتعة العالية جدا , وهذا العذاب الغريب الذي نريده دوما عندما ينتهي .

هو مرحلة يريد كل عاشق أن ينهيها بانتصار , أي أن يعود إلى أحضان الحبيب مهما كلّفه الأمر

 

” الـحـضـن هـو انـتـصـار الـعـشّــاق ” ..

هو الأرض التي يحتلّها المنتصرون من أهل الهوى , ثمّ يتلقّون هزائمهم عليه .
العشّاق الحقيقيين يتجاوزون تلك المرحلة , مرحلة الفراق بوصال عنيف , والعشّاق الأقلّ رُتبة , يموتون كلّ يوم في انتظار معجزة , مثل العبيد تماما , الذين لا حول لهم ولا قوة ..

 

كونوا آلهة واصنعوا معجزاتكم بأيديكم

الحبّ هزيمة نسعى إليها .

[ وعَدتُ بكلّ برودٍ , وكُلّ غباءٍ ; بإحراقِ كُلّ الجُسورِ ورائي .
وقرّرتُ بالسرّ قتل جميع النساءِ , وأعلنتُ حربي عليكِ ..
وحين رفعتُ السلاحَ على ناهديكِ ; أنهزمتُ .
وحينَ رأيتُ يديكِ المُسالمتين ; اختلجتُ .
وعدتُ بأن لا.. وأن لا.. وأن لا..
وكانت جميعَ وعودي دُخاناً ، وبعثرتهُ في الهَواء.
وعَدتكِ بذبحكِ خمسينَ مرّه..
وحينَ رأيتُ الدّماءَ تُغطّي ثِيابي ; تأكّدتُ أنّي الذي قد ذُبِحْتُ ] *

* | أبيات من قصيدة ( محاولات لقتل امرأة لا تقتل ) لنزار قبّاني ..

———————————

لا يوجد عدلٌ في الحرب , هل هناك عدالة في الحُبّ ؟! :
– ” لأ ” .! .

هل هناك منطقيّة في هذه الحرب ؟! :
– ” لأ ” .! .

في هذا الحبّ ؟! :
– ” لأ ” .! .

 

– الحرب تبدأ بعداءٍ شديد ; ثمّ تنتهي ..
قد تنتهي باحتلال كامل , قد تنتهي مبكّراً وقبل أن تبدأ .. بسلامٍ ودون أيّ خسائِر , قد تنتهي بصُلح , وقد تنتهي باستسلام أحد الطّرفين , أو بخسائر مشتركة وفادحة جداً .

الحبّ ببساطة يبدأ من الآخر .
يبدأ بهزيمة , يبدأ بتسليم كامل وسريع ومباغِت من أوّل طلقة , ..
وينتهي بحربٍ شامِلة تُستخدم فيها مختلف أنواع الأسلحة العاطفيّة .

في المواجهة الأولى ..
يُطلق كلا الطرفين أوّل رَصَاصَة باتّجاه بعضهما البعض في نفس الوقت , في القلب مباشرة ..
ويُلقيا _ فوراً _ أسلحتهما على الأرض في نفس الوقت , تحت القدمين مباشرة ..
ويعلنا الاستسلام الكامل في نفس الوقت , في الحُضن مباشرة ..
وبعد هُدنة عاطفيّة طويلة , تكتمل خلالها المعرفة العميقة , والدقيقة , والمفصّلة بالحبيب ..

تبدأ الحرب , يبدأ الحُبّ ..

 
وفي هذه المعركة , ..
أنت القائِد , وأنت الجَيش , وأنت السّلاح , وأنتَ المُعتدي , وأنتَ المُصَاب ,
وأنتَ المُداوي , وأنتَ الدّاء , وانتَ الدّواء , وأنت القاتِل , وأنتَ القتيل ,
وأنت المنتصر , وأنت المهزوم , وأنتَ الخصم , وأنت الحَكَم , و ..
وباختصارٍ شديد ; قلبكَ ساحةَ قِتال لا ينتهي .

 

 
– في الحرب لا مكان للاتفاقيّات ; حيثُ تُخلف الوُعود , وتُنقض العُهود .
ولا يُنقذ الحبّ من الدّمار إلا عهدٌ قديم , أو وعدٌ صادق .
لأن عُهود العاشقين هي الشيء الوحيد الذي يُحتَرَم في معركة الحبّ , ..
وفي ساحة الحرب لا شيء مُحتَرمٌ أبداً , أبداً ..
لا عُهود , ولا عُقود , ولا اتفاقيات , ولا كلمة شرف حتّى ..

لا شيء , لا شيء , لا شيء .

لأنّ الحربَ قذرةٌ جداً .. فالسّياسة إذن حبٌّ يُدار بعُهرٍ فاضح , ..
لأنّ الحبّ طاهرٌ جداً .. فالغرام إذن حربٌ تُدارُ بطُهرٍ شديد .

ولأن المصلحة تتحكّم في الحرب , بينما الحبّ يتحكّم في كلّ المصالح .! ..
ولأن الغاية تبرر الوسيلة في الحرب , بينما الحبّ هو الغاية وهو الوسيلة .! ..
فالحبّ إذن هو :
الحربُ الوحيدة التي تُسعدنا وتُبكينا , تبدؤنا وتُنهينا , تقتلنا وتُحيينا .

 

 

– بعكس الحرب , يُحصي العارفون بالحبّ خسائِرهم بحجم انتصاراتهم :

حيث أنّ المُقاتلين في الحُروب يقيسون خسائرهم بمقدار مافقدوه , إلا أنّ غُزاةَ القُلوب يُحصون خسائرهم بمقدار ماغَنَموا ..
ففي مملكة المعشوق ; كلّ شبرٍ دُستَ عليه بخيلِك , وكلّ قلعة تسلّقتَ جدرانها بيديك , وكلّ شريانٍ عبرتَه بجيوشِك , وكلّ ذِكرى جميلة صوّبتَ نحوها بنادقك ..
وكلّ ابتسامة وكلّ دمعة وكلّ هجر وكلّ وصال وكلّ كلمة وكلّ حضن وكلّ قبلة وكلّ صفعة وكلّ شيء وكلّ شيء وكلّ شيء ..

كلّ شيء اعتقدت أنّك حصُلتَ عليهِ , أو حصل لك , أو للحبيب ..
كان منكَ وفيك ولك .. دون أن تعلم .

أنت لا تعلم .. لا تعلم أنّك إنّما كنتَ تخطّط لكي تحتلّ نفسك بنفسِك .! ..

 

 

 

– إذْ لا منتصر في معركة الحبّ , نحن الخاسرين دوماً ..
فعندما تنتصر على نصفك الآخر , تكتشف أنّ الأرض التي احتلّيتها كانت جزءًا من قلبك , وجزءًا من روحك , وجزءًا من عقلك ..
وأنّ أوّل رايات انتصارك ; غرستها في مُنتصف قلبكَ انت , ..
وأنّ أول رصاصة أطلقتها في ميدان الهَوَى ; ارتدّت إلى صدرك أنت , ..
وأنّ أوّل قطرة دمّ سفكتها ; نفرَت من شرايينك أنت , ..
وأنّ أوّل قتيل في المعركة ; كان أنت , وآخر قتيل كان أنت .
ولكي أكون أكثر دِقّة :
فأنت القتيل الوحيد في هذه المعركة ..
لذلك ..
فأنّ أوّل قرارٍ تتّخذه _ بعد ذلك _ بصفتك المنتصر , ..
.
.
.
.
أن تعلن للعالم كلّهُ أنّك مَهزوم ..

 

 

 

– لسوء الحظّ ..
كل هذا يحدث دون أن تشعر .
كل هذا يحدث دون أن تُحسّ , دون أن تعلم , دون أن تحتاط , أن تعي , أن تنتبه ..
وللأسف .. الشديد بالفعل ; تكتشف ذلك متأخراً , ..
تكتشف أنّك إنّما كنت تعمل بدقّة , ونِظامٍ , وصبر , ونَفَس , وهدوء , وحِكمة , ودَهاء , وصمت , وبخُطة محكمَة للغاية .. لكي يتمّ الاستحواذ عليكَ ..
.
.
كُلّيّاً .
.
.
بالكامل .
.
.
تماماً .
.
.
مِن إصبعِ قدمكَ الصّغير وحتّى نهاية آخر خصلة في شعرِ رأسك ; أنتَ مِلكٌ لمن اعتقدت أنّك احتلّيتَ قلبه .

 

 
– بينما يحتفل المهزومون في الحرب برحيل الغازي ..
إلا انّهُ من سُخرية الأقدار أن العاشق يبكي إن غادره المُحتلّ .
لأن الحبيب لا يترك القلب إلا ويُظلِم , ولا يغادر الرّوح إلا وتذبُل , ولا يهجر العقل إلا ويتعطّل , ولا يغيب عن العين إلا وتمتليء بالغيمِ والمطر والملح ..
العاشق هو الإنسان الوحيد الذي يتعب إن تمّ احتلاله , ويتعب إن تمّ تحريره ..

فالحبّ إذن كما ترون هو حيرة عُظمى ..
أن تحتار بين هزيمة وانتصار , ولا تعرف أيّهما تختار .

 

 

 

– في هذه الحرب , وبعد أن تنتهي ..
تكون قد قـَـتلت وقــُتلت , انتصرت وهُزمت , ضربت وأُصِبت , طعنت ونَزَفت , ضحكت وبكيت , اقتحمت وهربت ..
الذي لا تعرفه أنّك :
في نفس اللحظة أنتَ كنتَ كلا الطرفين , ..
في نفس اللحظة كنتَ القاتل والمقتول ,
في نفس اللحظة كنتَ المنتصر والمهزوم , كنتَ الضارب والمضروب , الطاعن والمطعون , الضاحك والباكي , الشجاع والجبان ..

ولكي أبسّط لكَ الأمر أكثر :
ركّز معي ..
أنت عندما تقع في الحبّ , وتتورّط في هذه الحرب _ انتبه جيداً لما يلي لأنّه سيفاجئك _ تكتشف أنّك طوال هذه المعركة ..
طوال هذه المعركة كنت ترفع سيفكَ أمام ” مرآة ” .

” شيء يجنن ” ! ..
أنا شخصيّاً لن أخوضِ حرباً مجنونة كهذه ; إذ أنّني أصبحتُ أعرف نتائِجها سلفاً , ..

فعلى الرّغم من أنكَ المنتصر , وعلى الرّغمِ من أنّكَ المُحتلّ , وعلى الرّغم من أنّكَ الحاكم , وعلى الرّغم من أنّكَ القاتل ..
إلا انني أطلبُ منك الآن , وبكلّ هدوء , ودون إثارة أيّ مشاكل , ولمصلحتك ” صدقني ” ..
أن تُلقي سلاحكَ تحت قدميكَ , وترفع الراية البيضاء .! .

 

 

قبل أن أمضي , أقول لكم :
في كتب التاريخ ..
” يصفّق المؤرخون للمنتصرين في الحَربْ , وكذلك .. للمهزومين في الحُبّ ..
.
.
أمثالي .! ” .

قال هذا حُبّي .

[ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ | فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ | فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ | إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ] *

 

* الأنعام | الآيات ( 76 , 77 , 78 , 79 )

——————————-

الحبّ والإيمان ..
والحيرة بينَ الجسَد والرّوح , بينَ المحسوس والملموس , بينَ الحُضور والغِياب , بينَ العقل واللا عقل , بينَ المنطق والعبَث , بينَ الشكّ والإيمان ..

رحلة البحثِ عن الربّ , تشبهُ _ من وجهة نظري الشّخصيّة _ رحلة البحثِ عن الحبّ ,
رحلة الأنبياء , والفلاسِفة , والقدّيسين , تشبه رحلة العُشّاق بحقّ / عُشّاق الرّوح ..
هي رحلة البحثِ عن الواحدِ / الوحيدِ / المتفرّدِ / الأكبرِ / المُطلَق / الذي لا يُشاركهُ أحد ..

إلا أنّ رحلة البحث عن الربّ تبدأ بأسئلة , ورحلة البحث عن الحبّ تنتهي بأسئلة ..
الباحث عن الربّ يشكّ ثم يؤمن , والباحث عن الحبّ يؤمن ثمّ يشكّ .! .
الباحث عن الربّ يبحث عن أجوبة , والباحثُ عن الحبّ يعثرُ على الأجوبة مقدّماً , يعثرُ على كلّ الأجوبة , ..
يجدها معلّبة وجاهزة في بيوت الشّعر , في القصصِ , في الحِكايات القديمة , في قلوب العاشقين والحَزَانى والمجانين , …
.
.
.
أمثالي .! ..

يعرف العاشِقُ كلّ الأجوبة ; قبل أن يبدأ رحلته ..
ثمّ لسببٍ نجهل لماذا يحدث ..! , ولظرفٍ لا نعلم متى يحدث ..! , وبأسلوب لا نعرف كيف يحدث ..! , ..
يفقدها / ينساها / يضيّعها أوّل ما يُحِبّ , ..
لذلك نجد أنّ كلّ من ينظـّر في الحبّ قبل أن يعثر على نصفهِ الآخر , يُصبحُ جاهلاً بهِ عندما يجده ..
يبدأ في السؤال ; وقد كان قبل ذلك يملك كل الأجوبة ,
يبدأ في الحيرة ; وقد كان قبل ذلك يعرف طريق العاشقين ,
يبدأ في التعثّر ; وقد كان قبل ذلك ” واثقُ الخطوةِ يمشي ملكاً ” ..
شرَط إبراهيم إيمانهُ بالربّ بالحُضور , ..
وعلى الأدقّ ; الاستمرار في الحُضور , أي ألا يغيب , .. أبداً ..
أن يكون هائِل الحجم ; أي ألا يكون هناك من هو أكبر منه , .. على الإطلاق ..
أن يكُون مؤثّراً ; أي ألا يكون هناك من يفوقهُ تأثيراً ..

ألسنا نعرّف الحبّ هنا ؟! ..

 
و _ في نفس الوقت _ يعتبر العاشق أنّ حُبّ عمره هو الذي لا ينقطع , بل يستمر , ويستمر , ويستمر إلى ما لانِهاية , ..
هو الخالد دوماً ; الخالدُ الذي لا يموت ..
هو الحاضر دوماً ; الحاضر الذي لا يغيب ..
هو الكبير دوماً ; الأكبر على وجهِ الدّقّة .. الذي يُنير حياته , ويؤثّر فيها , الذي يهبهُ السّعادة , السّعادة الدائمة ..

ألسنا نصف الربّ هنا ؟! .
لكنّ إبراهيم وجدَ _ في النّهاية _ أنّهُ صارَ يعبُدَ ربّا غير مرئيّ , ..
والعاشق يكتشف _ دائِماً _ في النّهاية أنّ حبّ العمر أقربُ من أن يطالبهُ بالحُضور , ..
أعظمُ من أن يكفر بهِ لمجرّد أنهُ لا يراه , ..
أكبرُ من أن يقيسهُ بآخر ; كما فعل إبراهيم عندما قاس الكوكب بالقمر بالشّمس .. و … وتعب ! , ..
تعبَ لأنّ الربّ لا يُقاس بأيّ شيءٍ , لا يُقارن , لا مثيل له ..
ونحن سنتعبُ , سنتعبُ جداً ..
لأن الحبّ الحقيقيّ لا يُقاس بأي مشاعِر أخرى , لأنّ الحبيب لا مثيل له ..

لم يكن إبراهيم لِيؤمن بربّ يغيب , ولم يكن لِيؤمن بربّ أقلّ حجماً , ولم يكن لِيؤمن بربّ أقل تأثيراً ..
والعاشق يؤمن بحضور الحبيب , ووجوده , وهيبته , ولا يؤمن بحبّ أقلّ مساحة , ولا أقل تأثيراً , ولا أقل حجماً ..
يكتشف العُشّاق العارفين بسِكَكِ الهَوى ; أنّ الحُضور الروحيّ للحبيب أقوى من الحُضور الجسديّ , ..
مؤخراً يكتشفون ذلك , مؤخراً ; في مرحلة متأخّرة من الحبّ ..
عندها يتحوّل الشكّ إلى إيمانٍ مرّة أخرى ..
في مرحلة الشّك يبحث العاشق عن المادّة , عن الملموس , عن الجسد , ..
في مرحلة الإيمان يلمس العاشقُ الرّوحَ بالروحِ , يؤمن بالله وبالحبيب معاً لأنّهما أبعد وأكبر من أن يتجسّدا ..
” الله مـَـحـَـبــّــة ” :
هكذا يقول المسيحيون , ..
فكّروا معي في الله قليلاً ..
فكّروا ! , ..
وستكتشفون ; لماذا صارت عاطفة الحبّ _ من أوّل التاريخ _ هي أول وآخر فصلٍ في كلّ حكاية , ..
أوّل وآخر قافية في كلّ قصيدة , ..
أوّل وآخر نوتة في كلّ مقطوعة موسيقيّة , ..
حتّى في الحِكايات المقدّسة كان الحبّ أول آية وآخر آية , أول سفرٍ وآخر سفر , أوّل مزمور وآخر مزمور , أوّل وصيّة وآخر وصيّة ..

إقرأوا ..
حتّى الأنبياء / والقدّيسين / والصّالحين / والرّهبان …… ..
أحبّوا , وتعذّبوا , وسُجِنوا , وقُتِلوا , و .. اضطروا لمخالفة كلّ القيَم _ في لحظة ضعفٍ سجّلها التاريخ _ من أجل شيءٍ اسمهُ الحبّ .
كان هاجس الغِياب عن القلب والعين هو المبرّر الأول , وكان هاجس الحُضور المادّي المستمرّ هو المبرر الآخر ..

أول جريمة قتل كانت بسبب الحبّ ; قابيل ابن أبونا آدم قتل أخيه هابيل من أجل امرأة , غيّب أخيهِ إلى الأبد لتحضر المرأة التي يحب .. إلى الأبد .. كانت ” بلوزا ” أخته .

إبراهيم النبيّ طلب من المرأة التي معه في مصر أن تدّعي أنها أخته لأنه خشيَ أن يُقتَل بسببها .. فكذبت لأنّها تحبّه , خافت أن يغيب ..
تلك المرأة هي زوجتهُ “سارا” .

يوسف الصّدّيق سُجِن لأنّ امرأة أحبّته , وهمّ بها , غاب في السّجن بضع سنين , تلك المرأة هي .. ” زُليْخة ” . .

سليمان جيّش الجنّ والعفاريت , والطّيور , والرّجال لإحضار امرأة واحِدة , .. امرأة اسمها ” بلقيس ” ..

امرأة تسبّبت في قطع رأس النبيّ يحيى لأنّهُ صدّها بعدما أحبّته , غيّبتهُ عن الدّنيا كلّها لأنّه رفض الحُضور لدنياها .. تلك المرأة اسمها ” سالومي ” الراقصة .

الحُضور / الغِياب , هما طرفي المعادلة في ما نسميه ” حب ” ..

 

الحبّ الغائِب عن أعيننا , ..
يسكننا جداً , يسكننا هناك عميقاً جداً , بعيداً جداً ..
لذلكَ قد لا نراه بالعين ..

و .. قريباً جداً , جداً , جداً ..
لأنّه يسكنُ القلب , لأنه يسكنُ الروح , لأنه يسكنُ العقل .

 

[ يبدأ الأنبياء دعوتهم سِرّا , ولمّا يتعاظم الأمر تُصبحُ دعوتهم جهريّة ,
ويبدأ العُشّاق علاقتهم سرّاً , ولّما يتفاقم الأمر تصبحُ قصّتهم حديث المدينة * ]

وأنا لديّ معجزاتي .

” في الحبّ شيءٌ من عظمَة الله , وأنفاسِ الشّياطين , وعذابات الأنبياء , وغُموض الملائِكة “

مازن .

——————————–

يغفر الله الذّنوب جميعاً إلا الشّرك , ويغفر العُشّاق كلّ الخَطايَا إلا الخِيَانة ..
الشّركُ في دين الله هو أن تُؤمنَ بآخر , والخِيانة في دين العِشق هي أن تحِبّ آخر .
” لا إله إلا الله ” في قلبِ كلّ مؤمن , و” لا ” يجتمع اثنان في قلبِ أيّ عاشق .

أن تُشرِك مع الله إلهاً آخراً فأنتَ خائِنٌ للأديان السّمَاويّة كلّها , وأن تُشركَ مع حبيبكَ حبيباً آخراً فأنتَ كافرٌ بكلّ مذاهبِ الحبّ , وخارجٌ من كلّ مِلَلِ العِشق , ..
أنتَ مرتدّ عن دينِ الهَوى ويجب هدر دمك .

العاشق يتعامل مع الحبّ بألوهيّة , إذْ أنّهُ لا يقبل أن يُشرَك معهُ أحدٌ ابداً , ..
والخائِن يتعامل معهُ بشَيطنة , إذ في الوقتِ الذي تكتشفَ فيهِ خيانتهُ ; يدّعي انّه أفضل مِن كلّ مَن يحيطُ بكَ , وأنْ ليس معكَ حقّ في أن تطردهُ من قلبك , وربّما أقسمَ قبل أن يرحل بأن يدمّرك , ثمّ يدمّر كلّ من تربطهُ صلة بك , وبالضّبط ..
كما فعلَ إبليس في السّماء ; يفعل كلّ الخَوَنة في الأرض .
أنّهم يغوون .! .

 

 
خلقنا الله على شيءٍ من هيئتهِ , ونفخ فينا بشيءٍ من روحهِ , وأعطانا شيئاً من صفاتهِ , ..
وهبَنا أشياءَ مثل :
” الكرم , العدل , الرّحمة , العلم , الحِكمة , العَظَمَة , … ” .
ثمّ عمّد الشّيطان بأن يمزُج كلّ هذا بشيءٍ من :
” البُخل , الظلم , القسوَة , الجَهل , التّهوّر , الذُلّ … ” .

[ إذن نحن أنصافُ آلهة , وأنصافُ أبالِسة .. ]
نُصيرُ آلهةً عندما نُحبّ , ونُسخَطُ شياطيناً عندما نُشركُ آخراً مع من نُحبّ .
الحبّ صَنيعة الخالق , والشّركُ بالحبيب ” عمَلٌ شَيْطانيّ ” ; لا أشكّ في ذلكَ مُطلقاً .

 
عندما نحبّ نصنع معجزاتٍ كثيرة , تماماً كإله , هو خلقنا بيدهِ ثمّ أعطانا _ نحن العُشّاق _ بعضاً من قُواه :
– نحن نعلم ” الغيب ” القريب أو البعيد كـ ( مرض الحبيب , حادث , موت ) ونسمّيه في مصطلحنا الآدميّ ” شفافِيَة ” :
يحدث ذلك عبرَ إحساسٍ مباغتٍ أحياناً , وأحياناً أثناء النّوم , أو خلال أحلامِ اليقظة , ..
” كيف ؟! : لا نعرف .! , المهمّ أنّه يحدث بالفِعل ” ..

– نستخدم ” الوحي ” ونسمّيه في مصطلحنا الآدميّ ” تيليبوثي / أو تخاطر ” , ونرسل رسائِل قصيرة سريعة إلى الحبيب المذهل أنهُ يستقبلها بالفعل .

أو قد نفكّر معهُ في نفس الشّي في نفس اللحظة , ..
وربّما ” ربّما كثيرة ” أن ننوي أن نتّصل بهِ في الوقت الذي يرفعُ هو السّمّاعة ليتّصل بنا , ..
أو يتّصل بنا قبل ان نُكمل هذا السّؤال :
” تُرى ! , مالذي أخّره ” ؟! ..
لكنّنا لا نعلم أنّنا _ وعندما تحرّك هذا السؤال في بالنا _ انّنا كنّا نقومً بإرسالِ رسالةٍ إليهِ , ..
إنّهُ وحيٌ من القلب للقلب , من الرّوح للرّوح , من العاشقٍ للعاشق ..
نحن نوحِي لمن نحِبّ عندما نحِبّ ; إذن نحن آلهة , ويوحَى إلينا ممّن يحبّنا ; إذن نحن أنبياء ..
[عندما تُحِبّ و تُحَبّ ; فأنت نصف نبيّ , نصف إله . ]

– تُكشَفُ عنّا الحُجُب , ..
نحن نرى مالا يراهُ البشر , نسمع مالا يسمعونه , ونشعر بمالا يشعر بهِ أيّ مخلوق .
أي أنّنا قد نشعر بوجود الحبيب بين مليون شخص ونعرفه وإن تخفّى عنّا , ..
وقد نشعر بوجوده أيضاً في مكانٍ عامٍ دون سابقِ موعد , ..
ويحدث كلّ ذلك دون وجود إشارة واضحة تدلّ عليه , أو على مكانه أو صفته , نعرفهُ بشيءٍ يسمّيه المتبحّرون في أمور العشق :
” فراسة , أو استشعار عن بُعد ” , ..
أنا أسمّيه :
” استشعار عن حُب ” .

 
عندما نشرك بالحبيب حبيباً آخر نصبح خوَنة , وعندما نخون نمسي أبالسة ; لذا :
– من الممكن أن نتآمر , أن نحيك الدّسائس , أن نشيَ بمن نحب , أن نوسوس له عبر آخرين ,..
أن نغويه , حتّى يصير شيطاناً مثلنا , ثمّ نتركهُ نحن بحجّة أنّنا الملائِكة ..

يعرفُ الخائِن أنّه ذاهبٌ ليُخَلّد في جحيمٍ من العلاقات المتعدّدة لا محالة لذا فهو يحرصُ أن يأخذَ معهُ أكبر عددٍ من الأنبياء , ..
ويعرف العاشق أنّهُ مخلّد في قلب حبيبه لذلك يحرص ألا يأخذ معه أيّ شيطان .
عندما نحِبّ الآخر أكثر ممّا يحبّنا ; حُبّا متطرّفاً , أعني لدرجة الشكّ والحيرة والقلق والغيرة ,
فنحنُ نقتربُ من أن نكون خليطاً من البشرٍ والشياطينَ والملائِكة , يعجننا الله بيديهِ من الطين , ثم يغمسنا في النّار والنّور معاً ; وهي معادلة قاتلة وخطَرة ومُربِكة , لأننا سنصبحُ وقتها :
” أكثر طاعة للحبيب وأكثر عصياناً له , أكثر خوفاً منهُ وأكثر خوفاً عليهِ , أكثر لُطفاً وأكثرُ عنفاً , أكثرُ تسامحاً وأكثر لوماً , أكثرُ إيماناً به وأكثر كفراً به , أكثر قلقاً , أكثر جنوناً , أكثر شكّاً , أكثر غيرة , أكثر ذِكراً لإسمه , وأكثر إنكاراً لهُ .! ” ..
باختصار :
أكثر تناقضاً .! ..
وعندها يصبحُ الآخر :
” … أكثر بُعداً , يصبحُ بعيداً جداً , بعيداً جداً جداً جداً كإله ” .

لذا يجب أن تتوازن الصّفات , وتتواءم القُوى .. لنحِبّ ونُحَبّ بنفس القدر ( إن أمكَن ( , ..
يجب أن نمشي بنفس السّرعة , ونُهرول بنفس السّرعة , ونركض بنفس السّرعة , ونقف في نفس المحطّة في نفس الوقت , ثم نعود ونمشي بنفس الخطوة , بنفس الرّتم والإيقاع :
تِك تَك / تِك تَك / تِك تَك / تِك تَك ..

يحدث أحياناً أن يتأخر أحد , أن يتعثّر أحد , أن يتعب أحد , قد يحدثَ خللٌ في الإيقاع , ..
وهو ما قد نسمّيه :
” هجر , خصام , فراق , بُعد , ملل .. ” .
الشّطارة أن يقف الآخر , أن ينتظر , أن يغيّر إيقاعه , أن يعود إلى النّغمة السليمة ليستريحا معاً ثمّ يُكملا المشوار , وهو ما نسمّيه :
” وِصال , رضا , صُلح , قُرب .. ” .

يجب أن نثِق في من نحبّ ..
يجب أن نعرف أنّ الثّقة صفة الإله , وأنّ الشّك سمَة البشر , ..
وأنّ الغيرة شُعور شيطانيّ لا ينقطع , وأنّ الإيمان عمل الملائكة المستمرّ ..
صدّقوني , ..
لأن من يثق يصبح أقوى , لأنّ من يشكّ يصبحُ أضعف ,
لأنّ من يؤمن يصبح أكثر نورانيّة , لأنّ من يغار يصبح أعنف ..
من تجربة عميقة , عميقة جداً , جداً ..
عندما تقع في الحبّ تصبح أحياناً :
نصف إله , نصف مَلاك ,
وأحياناً :
نصف إله , نصف شيطان ,
وأحياناً :
نصف إله , نصف نبيّ .

ما يعني _ بالنّسبة لي على الأقلّ _ أنّي عندما أحبّ لن أكون بشراً عاديّاً .
.
.
.
.
الحبّ شيء خارق .! , وأنا لديّ مُعجزاتي , ..
الحبّ إيمان .! , وأنا مؤمنٌ للغاية

ثلاثة رجال , ثلاثة نِساء , شيطانٌ واحد … وجريمة قتل !.

 

[ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ | لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ | إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ | فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِين ] *

* المائدة : 27 , 28 , 29 , 30

——————————–

ما لذي حصل على الأرض قبل أكثر من مليوني سنة ( تقريبا ) .! .

سبعة أفراد على الأرض .. سبعة فقط .

على مسرح الجريمة كان هناك :
ثلاثة رجال , ثلاثة نِساء , شيطانٌ واحد … وجريمة قتل !.

أوّل جريمة قتلٍ في التاريخ ; كانت من أجلِ المرأة , من أجلِ الحبّ , من أجلِ الغيرة .

ومن أجل أن يتزوج اختهُ ” بلوزا ” , قتل قابيل أخيهِ هابيل .
كانت أمّ الدّنيا “حوّاء ” مشغولة جداً في ذاك الوقت ; تلدُ ابناً وبنتاً في كل بطن , ومن المفترض أن يتبادل الرجال النساء _ وفقا لآلية التناسل التي فرضتها ظروف ذاك الزّمن _ ولهذا فكان من الطبيعيّ أن يتزوّج قابيل أختَ هابيل _ التي تجاهلها التاريخ تماماً _ على أن يتزوّج هابيل من بلوزا ..

لكن قابيل أحبّ بلوزا , و.. ” القلبُ وما يُريد ” ..
أحبها وأرادها لنفسه, .
وقتل أخيه في لحظة حبّ , في لحظة كُره , في لحظةِ قوّة , في لحظةّ ضعف , في لحظة أمل , في لحظة يأس , مع سبقِ إصرارٍ , ودون أيّ تخطيط ..
وبسرعة فائقة :
” دُم دُم دُم دُم دُم دُم ” .. هشّم رأسه بصخرة ..

لماذا حوكم قابيل على أنه أوّل مجرمٍ في التاريخ , ولم يوصف بأنه أول عاشقٍ في التاريخ ؟! ..
لماذا قيل أنه قتل أخيهِ بدمّ بارد , ولم يُقال بأنّ الحبّ والغيرة أضرمتا النار في جمرةِ قلبه .؟! ..
ولماذا كتب المؤرخون _ الذين لم يكونوا هناك بالمناسبة _ أنّه قتل أخيه دون رحمة , دون شفقة , وبعنف ودمويّة ووحشية ; وهو يقف كقالب ثلج , في الوقتِ الذي حضن فيه جُثّة أخيهِ بحرارة وبكى ..
بكى طويلاً , وكثيراً , وغزيراً ..

ولماذا ؟ :
غيّب التّاريخ شهادة ” بلوزا ” ؟! .
قابيل هذا .. هل كان قاتِلاً من الدرجة الاولى ؟ , نعم ..
لكنّه كانَ عاشقاً من الدّرجة الأولى أيضاً .
لو توقف الزمن في اللحظة التي رفع فيها قابيل الصخرة فوق مستوى رأسه .
وبالضّبط بالضّبط قبل أن يهوي بها على رأس أخيه , في هذا الجُزء من أهمّ ثانية في تاريخ الإنسانيةّ كلّها هذه اللحظة تهمني كثيراً وسأقولُ لكم لماذا :
تلك أوّل لحظة حبّ , أوّل لحظة غيرة , أوّل لحظة غضب , أوّل جريمة قتل , أوّل لحظة ندم , أوّل حالة بكاء , أوّل قاتل , أوّل قتيل , أوّل قبر , أوّل , وأوّل , وأوّل , وأوّل , وأوّل ..
عدّوا معي ..
عدّوا وستتعبوا كثيرا لأن التاريخ هناك كتبَ أول ” كل شيء ” ..

لو طلبت منكم الآن بهدوء أن تُحضّروا قهوتكم , وتُطفئوا الأنوار , وتجلسوا على الصّوفا , وتوقفوا المشهد في تلك اللحظة تحديداً , وتسألوا أنفسكم معي :
– ” مالذي رآه قابيل في تلك اللحظة ” ؟! ..
مالذي جعله يحمل صخرة من الأرض , ثمّ يرفعها فوق مستوى رأسه , ويُلقي بها على رأسِ أخيه ؟! ..
بسرعة , دون تفكير , ودون أيّ تردد .؟! .

أنا ؟ , ..
أنا أقول لكم هذا من خلال رؤية مختلفة , ..
وتجارب إنسانية متراكمة , وقاسية , ومؤلمة , وعميقة , ومؤثرة , وممتدة , ..
وهذا الرأي غير ملزم لكم بالتأكيد :
– ” قطعاً قابيل لم يرَ هابيل ” .. إطلاقاً .! .
كان قابيل _ في تصوري _ يرى أبعد من ذلك , وأهم من ذلك , وأجمل من ذلك ..

كانت ” بلوزا ” تقف بشعرها الطويل حتى ساقيها خلفَ هابيل , وكان الشيطان يقف خلفَ بلوزا ..

وكنت أنا _ من زمنٍ آخر _ أراقب المشهد بدهشة , وبصمت , وبإنصات شديد .. ودون حراك .! .

 

 
تخيلوا ..
أنا أشفق على هذا الرّجل ..
كل تلك المشاعر الإنسانية صُبّت في قلب , وروح , وعقل , وجسد ” بني آدم ” واحد ..
كل تلك المشاعر التي لم تجرّبها البشريّة إطلاقاً , وكانت تجربها ذاك الوقت لأول مرة ; جرّبها رجلٌ واحد ” لوحده “, في لحظة واحدة , ودُفعة واحدة .

قابيل الذي لُطّخَت سمعته , وأهين , وجُرّم , وعوقِب , ونُبِذ , ووصف بأنه أوّل من ارتكبَ جريمة في تاريخ الإنسان ..
قدّم قلبهُ قرباناً لتعرف الإنسانية اسم وشكل وطبيعة أول مشاعر آدمية .
عدّوا على أصابِعِ يديكم :
الحُبّ , الغيرة , الحسد , الكُره , الغضب , الحيرة , النّدم , الـ .. بُكاء .
لماذا يقتل الرجل من أجل المرأة ؟! .
لماذا يُزَجّ العُشّاق جماعاتٍ في السّجون , والقُبور , وفَرادى في القُلوب المُظلمة ؟! ..
لماذا يقفون بشجاعة على المشانق , وتحت المقاصِل , ووسط المَطر والرّيح ورَصاص البَنادق ؟! ..
لماذا يهيمون حَزَانى في الصّحارى , والأودية , والجبال .. يقولون شعراً .. ويتبعهمُ الغاوون ؟!

لماذا يحدث ذلك كلّه , ثمّ _ وببساطة شديدة _ تغيب المرأة التي ضيّع من أجلها العاشق عمره .. بعد شهر , شهرين , ثلاثة على الأكثر ..
لا تقف على شاهدِ قبرهِ , ولا تُنشد شعره , ولا تزور ..

نعم .! ..

” قتّش عن المرأة ” ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نابليون بونابرت
لماذا لم نسمع بأنّ امرأة قتلت من أجل الحبّ .. ؟! ..
لأن المرأة أذكى من أن تفعل ذلك .
لأنّ المرأة أقلّ حبّاً , أكثر صبراً , وابعد نظراً ..
ولأنّ الرجل أكثر ” خيبة , أكثر ” خيبة , أكثر ” خيبة .

ثقوا بي ..
الرجل عندما يحبّ لايرى أبعد من أرنبة أنفه , والمرأة عندما تحبّ يطول أنفها أبعدَ مما نتصوّر .

الكلام في الحبّ سهلٌ جداً .

 

يا الهي عندما يضربنا الحب على غير انتظار ; مالذي يذهب منا , ما الذي يولد فينا ..
كيف نغدو كالتلاميذ الصغار ابرياء ساذجينا .

يا الهي كيف نستسلم للحب ونعطيه مفاتيح الامان
واليه نحمل الشمع وعطر الزعفران , كيف ننهار على اقدامه مستغفرينا ..

” نــــــزار ” .

—————————–

الحب لا يستأذنكم إن أراد الدخول إلى قلوبكم , ..
الحب لصٌ محترف , ومثقّف في نفس الوقت . إذ يندر هذه الأيّام أن تجد لصّا مثقّفاً .
اللصوص الأغبياء كثير , ويسقطون بسرعة في يدّ العدالة ..
لكنّ المثقفينَ منهم نُدرة , ويختارون ضحاياهم بعِناية شديدة , وبدقّة شديدة , وبطولِ بال ..
بمعنى أنّه يحدّد خصمه بانتقائيّة مُدهِشة , يتعرف عليهِ بتأنٍّ مستفزّ , ويدرسُ كلّ عاداته بتفصيلٍ مملّ ..

 

وكلّ يوم ..
يراقبُ دخولك وخروجك , ومن تصادق ومن تعادي , ومن تحب ومن تكره , وماذا تأكل وماذا تشرب , وأين تتناول إفطارك , وأين تقضي سهرتك كلّ مساء .. باختصار :
هذا الكائِن يعيش معَك دون أن تدري .
يوما بيوم , ساعة بساعة , دقيقة بدقيقة , وثانية بثانية .
قد يعيش معك كمخلوقٍ علويّ , أو كمخلوق سفليّ ..
الإثنان يستطيعون رؤيتك ولا تستطيع رؤيتهم , .. وأحدهم , أحدهم سيحطّمك بكلّ تأكيد ..

 

السّيطرة على حواسّك هي هدفه الأوّل , ولعبته التي لا يتقنها غيره , وسلاحه المجرّب والمهمّ والذي لا ينتصر بِسواه ..
حتّى أمهر السّحَرة , ولاعبي الخفّة لا يمكنهم مجاراته في هذا ; في الحقيقة هُم يتعلّمون منهُ مهنتهم ..

في البِداية يتحكم في بصرك , إذ لا ترى غير المحبوب ..
ثم يتحكم في سمعك , إذ لا تسمع غير صوته ..
ثمّ يبدأ في نشلِ حواسّك الواحدة تلو الأخرى ..
ولمّا يتمكّن منك ; يشلّ قدرتك على النطق كي لا تقوى على الصّراخ وطلب النجدة , ثم ..
يمدّ يده _ بمِهارة شديدة _ في جيبك ويسرق كل مفاتيح قلبك , وروحك , وعقلك .. ويضع قدمه الأولى في أعماق أعماقك بكلّ ثقة ..
وبعد أن يدخل ..! , .. ” يعزمك ” _ بكل بجاحة _ على الدخول معه .! .

 
إن خبأت عنه المفاتيح ; سيدقّ عليك الباب بكل أدب وهو يحمل بين يديه باقة وردٍ جميلة كأي جنتلمان .

وإن لم تفتح له .! ..
سيلقي الورد على عتبة دارك ثم يتسلل من تحت عقب الباب مثل الزّئبق , مثل الماء , مثل الهواء , مثل العطر , مثل الملائكة , مثل الشياطين , لن يعيقه أيّ شيء , أيّ شيء .
إنّه يدخل إلى بيتك مثل كل المخلوقات التي لا تُرى , ولا تُمسك , ولا تُحَسّ , ولا نشعر بها ..
وبعد أن يدخل .. صدقني ..
ستشعر به , ستشعر به جداً , جداً ..

 

إن لم يستطع الدخول عبر الباب .. قد يقفز عبر الشباك كأي ” حرامي ” ,
أو ينزل لك من المدفأة مدعياً أنه ” بابا نويل ” وأنه يحمل لك هدايا عيد الميلاد ..
لا تصدقه . .
فـ ” بابا نويل ” لا يزورنا أبداً في الخريف

 

حتّى وإن كان بيتك بدون مدفأة ؟! , حتّى وإن أغلقت أمامه الشبابيك ؟! .
بعد أن تغلق آخر شباك , وتسدل الستائر , وتطفيء الأنوار وتعود .. ستتفاجأ به على مائدة طعامك , وهو يعدّ العشاء .. لإثنين ..

 

 

الحبّ يزدادُ عُنفاً وإصراراً كلّما صدّيناه ..
أنا شخصيا أعترف أنّ الحبّ كان أقوى , وأذكى , وأشرس , وأعنف , وأدهى , وأقسى من واجهت في حياتي .

لديه القدرة أن يصبح المسيح , ولديه القدرة أن يصبح الشيطان في نفس الوقت .

 

 

الكلام في الحب سهلٌ جداً , لكن الإقامة معه صعبة .
الكلام عن الحبّ جميل جداً , لكنّ الإقامة معه بشعة جداً .
هو ضيف ثقيل , فضولي , مزعج , متطفل , عنيف , قاسٍ , فوضوي , ومتطلّب ..
لكنه حلو , ممتع , لذيذ , بريء , ساذج , وطيّب جداً , ويملك عقل طفل ..
تستطيع رشوته بقطعة حلوى , وتستطيع إشغاله بلعبة جديدة لكي يكف عن إزعاجك .
” خللي بالك ” ..
سيهدأ قليلاً لكنه لن يغادر ..
فبعد أن ينتهي من التهام الحلوى سيعود لإزعاجك مرة أخرى ..

نصيحتي إليك :
” لا تذهل من مظهره وهو ملطخ بالشوكولاتا , فقط اشتري راحة بالك وأعطِهِ لعبة أخرى , واحفظ في دولابك الكثير , الكثير , الكثير , الكثير من الحلوى ” .

 

لا يهمه إن كنتِ مكتئبا , لا يهمه إن كنت حزينا ..
هو لا يكترث إن حدث الفُراق بينك وبين من تحبّ , لا يقنعه أبداً أن تقول له وأنت تبكي :
” أنا تركته .. قلت له اتركني , وتركني وغادر .. أستحلفك بالله .. هيّا غادرني معه ” ..

لأنه .. سينظر إليك بكل برود , وسيجيبك وهو يهزّ كتفيه :
” وانا مالي , i dont care “
ثم يدخل قلبك مرة أخرى ويقفل الباب وراءه , …. وينام , وأنت ؟ , أنت لا تنام , أبداً لا تنام ..

 
الحب الذي يغذينا بكم هائل من الأحاسيس , والعواطف , والمشاعر , والرقّة , والحنان , والعطف , والشوق .. هو في الحقيقة مخلوقٌ لا إحساس لديه , ولا يملك أيّ مشاعر و .. لا يرحم .

 

هو ” ذوق ” جداً أمام الآخرين .
جرب مثلاً أن تشتكيه لأي صديق , جرب مثلا أن تقول :
أنهُ لا يعير دموعك أي اهتمام ..

وفي لمح البصر , ستراه وهو يحضر لك المناديل لتكفكف دموعك , سيضعك في موقف محرج جداً , وسيبكي معك أمام صديقك ..

 

إن أحببت يوماً ما , لا ترمي التّهمة على الحبّ ..
لأنه سيغادر مسرح الجريمة / قلبك , ثم يحضر للجميع بيّنة تواجده في مكان آخر وقت حدوث الغرام ..
الحبّ بالنسبة للرّجل خروج من عالم ضيّق إلى عالم أرحب , لهذا يعتبر الرجل أن تجربة الحبّ تُحاكي تجربة ولادته .
والحب بالنسبة للمرأة هو الطائر الذي يقف على صارية السفينة ليعلن الوصول إلى اليابسة , لهذا تعتبر المرأة الحبّ مخلوق تستطيع أن تراه , لكن لا تستطيع أن تمسكه .. تعتمد عليه للوصول لبر الأمان , ثم عندما تكتشف أنها تورّطت في جزيرة موحشة ومهجورة .. لاتجده على الصارية , ولا تجد السفينة اصلاً .

هذا الطّائر هو الرّجل , وتلك اليابسة هي المرأة , وهذه المركب هي الحبّ .

هو المركب الوحيد الذي يبحر بلا دفة , وبلا شراع , وبلا ربّان , وبلا خريطة ..
لو حاولت أن تدير الدفة , أو ترفع الشراع , أو تستعين بربّان , أو ترسِم خريطة تدلّك على اتّجاه الرّحلة .. ثق تماماً انّ الرحلة ستنتهي .

 

لا أؤمن بحبّ مبرّر , أؤمن بفراق مبرّر .
إن قال لك من تحب يوماً أنه يحبّك لسببٍ ما , فثق أنّه سيتركك لزواله .
ومن يعدّد أسبابه في حبّ الآخر , فمن وجهة نظري أنّه سيعدّ أسباب الفُراق على أصابع يديهِ أمامهُ في أقرب فرصة .

 
هذا الجهل بالسبب , هو الدّاعم لمشوار الحبّ .
وإن عُرف السّبب , بطُل الحبّ كلّه .
يجب أن ندعوا ربّنا ألا يأتي إلينا الحبيب يوماً ما بسببٍ واحدٍ يفسّر لنا ” لماذا يحبّنا ” .؟! .
لأنّ هذا السّبب سيكون المسمار الأول الذي سيُدقّ في نعشِ العلاقة .

 

وهذا يؤكّد أنّ الحبّ ; يحدث لسبب لا نفهمه , ولن نفهمه .
يحدث لشيء غير ملموس , شيء لا نراه بالعين المجرّدة , ولا نشعر :
متى , وكيف , وأين , ولماذا يحدث .

شيء خارق , وغير طبيعي , وغير آدمي .
يحدث دون منطق , دون معادلات , دون مقياس , دون حسابات , ودون تخطيط .

قد يحدث لنا مع أناسٍ دميمي الخِلقة , قد يحدث مع أناسٍ سيئي الطباع , قد يحدث مع أناسٍ ثقيلي الدّم , مع تقليديين , عاديين … إلى آخره .

حتى وإن كان الحبيب جميلاً , طيباً , مثقفاً , وخفيفَ دم .
وهذه لو حصلت فـ ” حظّنا من السّما ” , أن نقع في غرام من يحمل تلك الصفات الجميلة ..

إلا _ ويجب أن تصدقوا هنا _ أن تلك ليست أسباب عشقنا للآخر .

الحبّ قدر , ومكتوب , ونبوءة قديمة يجب أن تتحقّق ..
قدرك أن تحبّ شخصاً دميم الخلقة , قدرك أن تحبّه جميلاً .
أن تحبّ شخصاً سيء الطباع , أن تحبّه ملاكاً .
أن تحبّ شخصاً مرحاً , أن تحبّه ثقيلَ دمّ .
ولكن , ولكن كلّ هذا لا يفسّر لنا لماذا نحبّه .! , ..

 
لماذا نحبّ .؟! ,
لماذا نحبّ .؟! ,
لماذا نحبّ .؟! , ..
إن عرفت سبباً واحداً يبرر حبّك للشريك , تأكّد أن العلاقة انتهت .
الحب مرض
له سبب , له أعراض , له تأثيرات جانبية , له أطباء , و … مُعدي .
لكنه المرض الوحيد الذي ندعو الله أن نصاب به , ثم نحتار بعدها , نحتار جداً .. هل ندعو الله ليشفينا منه أم لا يشفينا .