ببساطة

ببساطة .

—————————————————–

1 – الكتابة البسيطة هي ما أعتبره أكثر .
الإنسان الذي أدهش السماء وهزّها , معجزة الله فيه كانت أنّه خُلق من شيء بسيط وتافه وغير متوقّع , لو أن الله خلق آدم من ضوء نجمة , أو مما يتناثر من جناح ملاك , أو من جواهر وأحجار ملوّنة من الجنّة , ما كنّا ولا كانت الشياطين .

لذلك أنا أحاول أن أكتب لكِ دوماً بموادي البسيطة التافهة والخام , بعرقي وطين الله حيث – حقاً – يطلع لك الإنسان فيّ .

بكل بساطة .. ” أنا أحبّك ” ..

هذا عرقي وتعبي , والآدميّة التي ما عرفتها إلا معك ..

———————–

2 – الانتباه إلى أنّي بدونكِ خفيف , ثقيل عليّ .

———————-

3 – بكاؤكِ يعني أن تقف كل الطّيور في السّماء مرّة واحدة , ثمّ تسقط على الأرض دفعة واحدة .

———————

4 – أنا ضائع , وهذا يعني ببساطة شديدة أنّني بلا حُضنٍ هذه الأيّام .
يعني أنّ خدّي لا يجد صدر ..
أنّ خدّي لا يجد صدر ; يعني أنّ أحلامي بلا مرفأ ..
هذا يعني أنّ البحّار الذي كان يقف أعلى الصّارية سقط من أعلى الصّارية ! ..
أنّ الطيّور التي كانت تحلّق فوق أوّل بقعة يابسة اختفت من فوق اليابسة ! ..
هذا يعني أن اليابسة نفسها اختفت ! , إذن أيّامي القادمة ليست لطيفة ..
هذا يعني أنّكِ البّحار , والصّارية , والطير , والأرض التي كان سيرسو عليها همّي .
واختفاؤكم جميعاً دفعة واحدة مقلقٌ بالنسبة إليّ , لأنّ هذا يعني أنّني قد أغرق .

حسناً .. بكل بساطة .
أنا أحبّكِ والله .

ولا أعرف لماذا أنا مُحتاجٌ للحلفان , لا أعرف لماذا أشهِد ربّنا على غرامي فيك .

الأمر بسيط ..
الله يحبني لأني أحبك , وأنا أحبك لأن الله يحبك ..
كلانا يحبك , لماذا أقسم لكِ على ذلك وأستدعي الله ليشهد معي .

أنا وهو , أنا وربنا , الصغير والكبير , ..

نحبك ..
إضحكي أرجوك , ضحكاتك تطلق الطير من صدري .

———————-

5 – ” إنتي مش في دمّي ” , أنتِ دمّي .

———————

6 – من بعيد – يبدو لي وجهكِ الأبيض , الناعم ; غيمتي إلى الله .
وأنا أجدّف على سحابة وآتي إليه .
مدّي يدكِ .

قد تبدين لي منديلا أبيضا في يد نبيّ , يهزّه لي فأصلي عليك ..

قد يبدو الأمر معقّدا , ومموّها , ومُراوغا , قد تبدو هذي الكلمات ليست كلمات , ومن يمشي على السطر الأخير ليس أنا , لم أعد بتلك الرشاقة , صرت أفقد اتّزاني أمامكِ .

وهذا يرعبني كثيراً .
قد أبدو أمامكِ وأمام الآخرين غاضباً , ساخطاً , ثائراً , لكنّني والله العظيم منكسِر ومتعبٌ وحزين .
قد يبدو الكلام غير الكلام , قد أقول ولا أقول , أغنّي ولا أغنّي ..
قد تُم تارارا تُم , بم بارارا بم ..

هه ! , هل أبدو لكِ الآن مختلا بعض الشيء , مهووسا بعض الشيء , متهوّراً بعض الشيء .
لكنني في حضورك أتعثّر في كلمتين , وحضن طويل , وفي عباءتك عندما تغادرين المكان .
كثيرةٌ أنتِ عليّ , وجميلة , قبلاتكِ في الهواء وأنتِ تجلسين في المقعد المقابل لي بلّونات عيد ملوّنة , يدكِ وهي تمسك يدي ; الطمأنينة التي يمنحها الله لي , أنّ كل شيء سيبقى على ما يُرام ,
ببساطة أنا أحبّك ..
هذا حقيقي وحياة ربّنا , كما أنّه فريد , كما أنّه لا يُحتَمَل .

لا يُحتمَل , شيء يشبه سقوط ملَك هائل من السماء على عصفور صغير ..

———————-

7 – في هذي العلاقة :

أنتِ الست
.
.
لكن انا برضو عندليب .

———————-

8 – الكلام الذي طار من يدي , حطّ مرة أخرى على يدي .

برغم أنّه بسيط , برغم أنّه خفيف , برغم أنّه يطير ويحط برشاقة متناهية , إلا أنّ ما أطيّره إليكِ يعودُ إليّ ! ..
” أيوا أنا أحبّك ” .

ولا أعرف شيئا يطير ويحط ببراعة مثل هذا .

———————

9 – أشهد الله أنّي سامحتك , وأطلقت الآن من قلبي الطير الذي لكِ في داخلي

——————–

10 – ( ما يمنعني من الكَلام , خوفي ألّا ننام ) .
يحدث كثيراً أن أعود بذاكرتي سنوات إلى الوراء ..
إلى المَكان الذي سقط فيه قلبي على الطّريق , عندما كنت أحاول البحث عنه ..
ثمّ جئتِ أنتِ من ورائي , كنتِ تحملين شيئاً , مددتِ يدكِ إليّ وقلتِ :

مرحبا , هل هذا القلب يخصّك .!
هكذا , بكلّ بساطة نقع في الحبّ .

——————–

11 – تقول :
منذُ فترة ليست بالقصيرة , لم تمشِ على أيّ سطر كما كنت تفعل سابقاً .

لا بخفّة , ولا برشاقة , ولا بنفس السّرعة التي كنت تعبر بها أيّ سطرٍ من أمامي , الغيم الذي كان يعصره الله داخل قلبكَ انتهى .

كنتُ أمدّ راحتيّ تحت وجهك حتّى يحط الريش والماء عليهما , الآن طارت حماماتك , وعيناكَ لم تعد تمدّاني بالمطَر , عُشب يديّ الذي كان يقرأك ماعاد طويلاً ولا أخضرّ منذ أخر حرف تركته على أصابعي .
…… حسناً :
– ( أنا أحبّك ..
ها أنا الآن أخضر وطويل )

———————

12 – أنا أتعامل مع هذا الأمر الصعب جداً ; ببساطة جداً .
لا أنكر أنّي في الماضي كنت أرمي الأحجار في البُحيرة التي بيني وبينك , وأعدّ الدوائر حتّى أحرّك الراكد منّا .

لكنّ الدّوائر بدأت تضيق , والأحجار صارت تنفذ , ثمّ فهمت ..
فهمت جيداً أن ما بيننا أبعد من مرمى حجر , وأعمق من بحيرة , وأكثر اتّساعاً من ألف دائرة .
وأهم من أيّ مناورات …

أنتِ لم تفهمي هذا , ولم تستوعبيه أيضا , وعندما وضعت عصاكِ داخل صدري لتقيسي عُمق البحيرة ; غاصت عصاكِ كثيراً , وأوجعني قلبي كثيراً .

ومع ذلك تعاملتِ معي مثلما يتعامل طفل مع عصفور على شجرة , هززتِ السّاق بعنف شديدٍ وطرتُ .
وكان من الأسهل أن تضعي لي فتات الخُبز على كتفيكِ .

الكلام عنّا على أية حال يوجعني , ويوجع العصفور الذي ما حط على كتفيك , يُبكي السّمك في الماء , والعصفور في السّماء , يوجع أصدقائي , ويوجع خصومي , يوجع حتّى الموتى , يوجع العشّاق وأخشى ان يتراجع بعضهم ..

أنا قُلتُ أني أحبّك , فهززتِ ساقي بعنفٍ شديد .

————————–

13 –
الفنّ البسيط لدرجة التعقيد , الممكن لدرجة الاستحالة , الذي في متناول اليد لدرجة الطّيران من القلب .

هكذا بكل ببساطة ..

 

لأن الكتابة فن … وتردد

” أفلاطون ” .. كتب السطر الأول من محاورة ” الجمهورية ” .. خمسين مرة . .

” هيمنجواي ” .. كتب الصفحة الأخيرة من روايته ” وداعاً للسلاح ” .. اربعين مرة ..

ذكرت هذا سابقاً .! ..

هذان العبقريّان تخرّجا من مدرسة , أنا التحقت بها منذ صغري ..

مدرسة ” المتردّدين ” ..

لولا التردّد الذي يصاحب الكتابة , ولولا الارتياب , والوسوسة , والقلق , والأخذ والرد , والمسح والشّطب , والحذف والإعادة , والخوف ..

لما عرفنا أفلاطون , ولا همنجواي ..

كما ترون ..

المحاولة الخمسين للسّطر الأخير لمحاورة ” الجمهورية ” , والمحاولة الأربعين لكتابة الصفحة الاخيرة لرواية ” وداعاً للسلاح ” ..

هي ما أنجح هذين العملين ..

نحن كقرّاء لم نعرف ماذا كتبوا في الـ 49 أو الـ 39 محاولة الأولى ..

هم فقط الذين يعرفون ماذا حدث وقتها , ولماذا تردّدوا , وأنّ ارتيابهم المستمرّ كان سبباً في معرفتنا بهم .

لأنني طلبت في وقت ما حذف موضوع ما ..

استغربت إحدى الزميلات تردّدي المستمرّ بينما كنت أنا في منتصف الثلاثينات وقتها , وفي الحقيقة أنا حاسم في أموري كلّها إلا أمرين ..

الكِتابة , والحبّ ..

طالما أنا مستمرّ في الكِتابة , ومستمرّ في الحبّ ..

تتغذى الكِتابة على التّكرار , ويتغذّى الحب على الارتياب .

في فنّ الكِتابة هناك مدارس كثيرة .

الكتّاب الأكثر شهرة , والأكثر إمتاعاً , والأكثر جاذبيّة , والاكثر جنوناً ..

يتخرّجون من مدرسة المتردّدين , والكتّاب المغمورين بالكاد ينجحون في مدارسهم الأخرى ..

بالنّسبة لي , لا أعتبر نفسي ” مكنة طباعة ” , أنا أكتب مشاعري التي تتغيّر كلّ ساعة , وكلّ دقيقة , وكلّ ثانية ..

اكتب ارتباكي المستمرّ , وأكتب قراراتي المتخبّطة , وأكتب مناوراتي العاطفيّة التي قد تتغيّر تبعاً لتغيّر سير المعركة التي يخوضها قلبي مع المرأة التي ترفع سلاحها في وجهي ..

من يكتب دون تفكير , ودون تغيير , ودون تشخيص لحالته التي يمرّ بها وقت الكِتابة سينسى مع مرور الوقت ما كتب ..

لن يتذكّر حرفاً واحداً .. ولن يتذكّره أحد .

ما أكتبه .. تحديداً ما أكتبهُ من نصوص ; هو قطعة من كبدي ..

من القلب , ومن الرّوح , ومن التّجارب المضنية في هذه الدّنيا .

أنا أتعب كثيراً حتّى أنشر , وأتعب كثيراً بعدما أنشر ..

الكتابة لديّ ليست بالسّاهل ..

لديّ نصوص تتألّف من عشرين سطراً كتبتها في أربعة أشهر , ونصوص تتألّف من أربعة أسطر كتبتها في عشرين شهراً ..

أنا لا أكتب نصوصي كيفما اتّفق , بسرعة وفي نفس اللحظة ..

لا أعاشر نصوصي كما تُعاشَر عاهرة , .. ليلة والسّلام .. ساعة وانتهت القصّة , ولا نعرف بعضنا بعد ذلك , ولا نتذكّر بعضنا البعض إن التقينا بعد شهور ..

بعض الكتّاب لا يتذكّرون قصائدهم , لأنّهنّ بنات ليل ..

أنا أعرف بنات أفكاري كما أعرف أولادي ..

كما أعرف النّدوب التي خلّفتها الجراح على وجوههم .

كما أعرف طريقة مشيهم , كلامهم , ضحكهم , بكائهم ..

كما أعرف لون أعينهم , لون شعرهم , لون بشرتهم , ..

فأنا أعرف عادات كل نصّ , ومزاجه , وطبيعته ..

أعرف النّص الضال , والنّص المحترم .. أعرف النّص الطّائش , والنّص المتّزن .. أعرف النّص الجميل , والنّص البشع ..

وأحياناً ..

أعاشر نصوصي معاشرة العشّأق , كلّ يوم نتعب في ممارسة الشّعر ..

نعرق , نلهث , نصرخ , نبكي , و .. نتمتّع ..

نبدأ سويّا في الوقت نفسه , وننتهي سويّا في الوقت نفسه..

مهمّ أن أنتهي أنا وكلامي في نفس الوقت , وأن نصل لأورجازِم الكتابة في نفس الوقت ..

وإلا .. أعيد الكرّة مرّة بعدَ مرّة بعد مرّة .. كما تلاحظون دوماً ..

أفعل هذا كثيراً حتّى أتأكّد أنّ كلامي لقّح الفِكرة في الوقت المناسب

وأنّ شِعري وصَل للذّروة ..

وأحياناً ..

أتعامل مع نصوصي كامرأة لا تلد , كامرأة لديها صعوبات كبيرة في الإنجاب ..

أحاول أنا وهي أن نلجأ لكلّ الطرق حتّى تحبل , وتنجب ..

هذا الأمر بالنّسبة لي ولها يحتاج لشهور طويلة , من العلاج , والمتابعة .

الفكرة التي تحبل بسرعة , أقطع علاقتي بها .. وأنكر معرفتي بها .

الكِتابة هي التردّد , والارتباك الجميل .

إن ارتجاف القلم في أصابعي , هو الذي يخلق تلك الرّشّات الجميلة والتعرّجات الغامضة على الورق ..

إن الحجر العاشر الذي ألقيه في بِرَك الكِتابة الرّاكدة , هو الذي يرسم تلك الدّوائر الجميلة والمتداخلة على السّطح ..

إنّ أكوام الورق الممزّق والملقي بشكل فوضوي وغير حضاري في صفيحة الزّبالة لمحاولة كتابة بيت شعر واحد , هي ما تجعلني أقف منتصباً وأنا في كامل أناقتي الشّعرية أمامكم خارج غرفة مكتبي ..

بعض من يعرفني عن قرب سمحت له أن يشاهد ذلك كلّه , أن يشاهد كومة الأحجار في يدي , وأن يشاهد ارتجاف أصابعي , وأن يشاهد سلّة المهملات تحت مكتبي ..

والبعض الآخر لا يحظى سوى بمشاهدة الرشقة الأخيرة في القلب

لأنّ الكِتابة فنّ , … ………………. ونفس طويـــــــل

هذا إهداء لمن يستسهل الكِتابة .. في ظل جرأة دور النشر .. على النشر لكل من هبّ ودب ..

” أفلاطون ” .. كتب السطر الأول من محاورة ” الجمهورية ” .. خمسين مرة . .

” هيمنجواي ” .. كتب الصفحة الأخيرة من روايته ” وداعاً للسلاح ” .. اربعين مرة ..

” فرجيل ” .. كتب التاسوعات في عشر سنين , ثم ابعدها عن عينيه خمس سنوات .. ثم نشرها بعد ذلك , وهو يقول ناصحاً : ” أكتب .. أكتب .. واترك ماكتبت بضع سنوات لتعود إليه ثم تختصره , واتركه سنة , ثم عد إليه لتختصره .. ثم انشره بعد ذلك ” .. . .

 

( والآن أصبح نشر كِتاب , أو ديوان شعر , أو رواية , أسهل من نشر الغسيل )

ميسّي .

مرّ أمامي اليوم مشهد مؤلم للولد الذهبي  ليونيل ميسّي في المباراة النهائية في كأس العالم .
هذا المشهد لا علاقة له بخسارة لاعبي الأرجنتين الكأس أمام الجنس الجرماني المتفوّق .

كان ميسي يتقيّأ في طرف الملعب .
كان يحاول أن يُخرج ما في بطنه , ولم يستطع .

وبرغم أنّ الجميع كان منتبهاً للكرة الوحيدة التي لم يستطع ميسي إدخالها في مرمى الألمان , إلا أن الكل لم ينتبه لما كان يحاول ميسّي إخراجه من جوفه .

هذا المنظر آلمني كثيراً , لأني أعتقد أن ما كان يحاول ميسي إخراجه من بطنه هو الجمهور الذي ” شاله ” على ظهره من أجل وطنه , أرجنتينا .

زمان , كنت أراقب ولد قصير ممتليء بكتفين مقوّستين ناحية رقبته , إسمه ديجو آرماندو مارادونا , كنت محظوظاً كوني شهَدت خروج المعجزات من قدميّ ذاك القصير .

كان يلعب بلا أيّ ضغوط , بلا جماهير تملأ بطنه , كان مرتاحاً جداً , ومتجليّا جداً ,

و ..

( آبرا كادابرا ) … كأس العالم يختفي من دولة المكسيك , ويظهر فجأة في دولة الأرجنتين .

اليوم وأنا أشاهد إبني حسين , أو ( حسين الحزين جداً ) كما سمّى نفسه بعد فوز الألمان ..

لم أشكّ لحظة في أن الولد الذهبي , ليونيل ميسّي هو معجزة ارجنتينية ثانية وقادمة .

لكن لاعبي كرة القدم ليسوا أنبياء , الأنبياء فقط من يصنعون المعجزات تحت وطأة ضغط نفسي رهيب ..

العكس يحدث مع لاعبي الكرة وهو ما حدث مع مارادونا في العام 86 لأنه كان يحضّر تعويذاته السحرية لوحده , و لم يحدث في العام 90 , لأنه تعرّض لما تعرض له ميسّي الآن ..

أن يحاول جمهور المسرح أن يدخل في رأس الساحر .

أن يبلع ملايين البشر في عقله , ثم يتقيأهم وحيداً دون أن ينتبه له أحد …

ميسي يوم أمس حمَل الكرة الأرضية بأكملها مثل العملاق الإغريقي الأسطوري ” أطلس ” على ظهره , كانت الأرض تدور بين كتفيه في أمان , بينما انحنى هو ليتقيأ دون أن ينتبه له أحد .

الكِتابة من غير أجنحة .

حتّى أتقن الكتابة وحدي، كان يجب أن أقوم بالقفزة الأولى وحدي.

حدث هذا منذ سنوات طويلة جداً، قفزت ورفرفت كثيراً ولم أرتفع أيّ سنتيمتر في الهواء،

بل وقعت على منقاري.

لم أتحدث مع أحد عن خيبتي الكبيرة، ولم أعرف كيف أعود للعش الذي بناه جدي لي، لكنّي تسلّقت الشّجرة مليئا بالخدوش ومليئاً بالإهانات الكثيرة، كان عاراً على عصفور أن يتسلق شجرة، لكنّي كنت مضطرا لهذا.

كان عاراً على مخلوقٍ بأجنحة أن يتسلّق شجرة جنبا إلى جنب مع الزواحف والجرذان والسناجب.

كان ” شكلي بينهم ” شاذا وغريباً.

لكنّي لم أهتمّ، وصعدت، وقفزت مرة أخرى، وسقطت مرة أخرى، وتسلّقت الشجرة مرّة أخرى.

حتّى قُمت بأوّل رحلة طيران.

نعم !، كِتابة أوّل نصّ بشكل سليم، شيء أشبه بالطيران بلا أجنحة.

حسين بقلم زامل

085939966135

 

الأديب الشاعر حسين سرحان

هو حسين بن علي بن صويلح بن سرحان من قبيلة الروسان (روسان المراوحة )من (برقا) بطن من بطون عتيبة المعروفة.
هجرة الروسان (مصدة)شمالا عن الدوادمي بحوالي 12كم, وشيخ القبيلة بن جامع, وهم يسكنون مصدة و الدوادمي, و قسم منهم في مكة. و قد استقر والد الشاعر في مكة المكرمة في حي المعابدة. جده لأمه (عبيد الله بن سرحان) تولى مشيخة المعابدة منذ دخل الملك عبد العزيز مكة, و قبل دخول الملك عبد العزيز في عهد الشريف عون كان ( أمير المعابدة )عمر بن سرحان أخا لجده صويلح.
و السراحين أعمامه و أخواله من الذين عاصروا الدولة السعودية لهم مكانة عند آل سعود في الخدمة و الرأي, و يعتمد عليهم في المهام الكبيرة كالنزاعات عند البادية.
أما والده علي بن سرحان فقد أوكل إليه من الملك عبد العزيز مراقبة بيع المواشي و كان يحسب رأيه في تقدير أثمانها و أنواعها.
بيت حسين سرحان معروف في المعابدة و هو مفتوح الباب للضيف و الطرقي و مرتادي مجلس القهوة الرسمي سواء في الصباح أو العصر, و على عادته فهو يجلس صباحا و مساء و يضيفهم و يحادثهم عن أحوالهم و يتناول معهم مطارحات شعرية و يروي كما يروون قصص و أشعار من سبق.
و حسين سرحان يجيد نظم الشعر النبطي و يحفظ الكثير منه, هذا خلافا عن نظمه للفصحى.
ولد الشاعر بمكة بين آخر 1332-1333 في حي المعابدة, و نشأ فيها و عاش بها إلى أن وافاه الأجل عام1413 في 6 من ذي القعدة.وقد تزوج من ابنة عمه من سكان مصدة عام1350 وله من الأبناء محمد رحمه الله توفي سنة1386 ومن البنات مزنة وهيا وقد توفيتا وبقي ابنتان وهما زهوة و فوزية.
كان كثير السفر في داخل المملكة و خارجها, فقد سافر إلى مصر وبيروت و العراق و الشام. وقد كان يرافقه في بعض سفراته الشيخ حمد الجاسر إلى بيروت ثم إلى بلاد أوروبا. و خلال هذه الرحلة طبع ديوانه (أجنحة بلا ريش).
أطول سفر غاب فيه كان إلى عسير حيث غاب سنة كاملة في مهمة أوكل بها, و قد قال كثيرا من شعره و بعض النثر وهو هناك.
كان يذهب بمعية الملك فيصل عندما كان نائبا في الحجاز إلى بعض المناطق الداخلية, و كان يرتاد مجلس الملك فيصل في الطائف.
وردت له ترجمات كثيرة في عدة كتب, و ممن كتب عن ترجمته محمد سعيد عبد المقصود و عبد الله بلخير في كتاب (وحي الصحراء), و عبد السلام الساسي في كتابه(شعراء الحجاز في العصر الحديث) كما ترجم لنفسه في بعض مقالاته.
درس في الكتاتيب على أيدي عدة مشايخ منهم باحميش و الشيخ محمد العلي التركي و الطيب المراكشي و غيرهم سواء في الحرم أو خارجه أو في مدرسة الفلاح, و أهم ما درسه في أوائل تعليمه الخط و بعضا من اللغة العربية ودرس فنونا من التفاسير و شروحا في الفقه الحنبلي و الأحاديث النبوية, و التحق بمدرسة الفلاح لكنه لم يبق بها إلا للسنة الثالثة, فقد كان الالتزام مع المدرسين يحرمه كثيرا من الوقت الذي قد يصرفه في قراءة خارجية في شتى المواضيع, فهو مولع بالقراءة في كل وقت فهو يقرأ ما يكون تحت يده, أو يدركه من يد غيره.
كان شاعرنا منذ سن مبكرة يكتب شعرا و نثرا و أقاصيص و مسرحيات و أشعارا نبطية, و قد نشرت الصحف و المجلات السعودية الكثير منها, و كذلك بعض المجلات و الصحف الخارجية.
و قد طبع في حياته عدة دواوين وهي أجنحة بلا ريش و الطائر الغريب و الصوت و الصدى.
أيضا مجموعة (من مقالات حسين سرحان )جمعها د/يحيى جنيد, و رسالة في الأدب و الحرب.
كما ضاع من أدبه الكثير منها ما احتواه الكوبر الذي كتب عنه الكثير, و من ضمنها مجموعة لديوانين (حادي العيس )و (هدهد سليمان ).
كيف و متى يكتب ؟
لم يلاحظ أن هناك وقتا محددا لممارسة الكتابة لكنه كان يكتب في المساء –ليلا- و هو كثيرا ما يكتب بالقلم الرصاص كما أنه قد يملي أحيانا.
كان يجلس متربعا و يسند الدفتر إلى فخذه فيبدأ بالكتابة من منتصف السطر, فيسترسل في الكتابة و كأن أحدا يملي عليه حتى يصل إلى نهاية الموضوع. وهو لا يعيد قراءة ما قد كتبه إلا ما ندر و لا يعدل أو يلغي أو يحذف إلا خلال الكتابة و قبل أن يدخل في ما بعدها. و إذا توقف قبل إنهاء الموضوع فهو لا يكمله في وقت آخر و ربما يعود له بعد أشهر.
تميز ت كتاباته بالسلاسة و العذوبة و الفصاحة, كما أنه كان يستخدم في مفردات شعره ألفاظا عربية ؛نظرا لتعلقه بأهداب الثقافة العربية و قراءاته للمعاجم العربية كلسان العرب و المنجد و غيرها من كتب اللغة, و حفظه لأشعار السابقين. كما أنه كان مطلع على كل ما يصدر من كتب حديثة .
وقد منح شهادة البراءة في الأدب.
أما بالنسبة للوظائف التي شغلها, فقد كان ضمن حاشية الملك فيصل. كما عمل في مصلحة اللوازم, و في وزارة المالية ثم سكرتيرا للجنة التنفيذية لتوسعة الحرم المكي الشريف. كما قد طلب منه في الثمانينات أن يتهيأ لمنصب وزير لكنه اعتذر غير رافض مبديا أسباب الاعتذار للملك فيصل و قد عذره.  

 

——————-

 

بقلم زامل سرحان رحمه الله .

 

أبيض – أسود

والآن اكتشفت أنّ الحياة من بعدكِ لم تكُن سيئة على أيّة حال .

وأن القفز من حافّة السفينة لم يكن مرعباً , وأنّ البحر بدونكِ لم يكن بتلك البرودة , وأن الظلام كان منام , وأنّ الحيتان الهائلة الحجم التي خفت أن تسبح داخل صدري الصغير ; كانت في منتهى الخفّة .

اكتشفت أن الشتاءَ لا يحتاج إلى معطفكِ ولا إلى حضنكِ ولا إلى كفّيكِ ولا إلى شفتيكِ , وأن الصيف بدونكِ كان مخلوقاً لطيفاً ومهذّباً معي ; قدّم لي الشّماسي والمشروبات المثلّجة .

اكتشفت أنّ الأمر لا يحتاج إلى إثنين لرقص التانجو , وأنّ اليد الواحدة يُمكن أن تصفّق وتميل مع الأغاني .

والآن اكتشفت أن ضحكنا سويّاً كان نُكتة , وان بُكانا سويّاً كان ندم .
وأنّ الحنين إليكِ فخٌّ واسعٌ في قلبك تعلّمت أخيراً أن أقفزه برشاقة متناهية .

وأنّ اكتئابي الذي توقّعت أن يجيء مبكّراً بعد أن تغادري ; لم يطرق القلب عليّ , …
اكتشفت أن الحُزن ” واد مش بطّال ” , و أنّ الوِحدة ” بنت عِشَرِيّة أوي ” .

لكنّي بكيت قليلاً ..
قليلاً ..
وقت أن ألقيت نفسي في حضن ظلي .

 

أطعم مخلوقاتك .

في الصفّ الأول متوسّط كتبت قصّة قصيرة، كنت فخوراً بها لدرجة أني عرضتها على مدرّس العلوم -مدرّسي المفضّل آنذاك – كان ابن حارتي، ابن حيّنا، كان لدى والده فرن كبير، وكنّا نأكل خبزاً ساخناً منه كلّ يوم، كان هذا الأستاذ مخلوقا لطيفا في نظري، حتّى عرضتها عليه ذلك اليوم، اليوم الذي قرأ فيه القصّة بصوتً عالٍ، وسخر من قصتي الصغيرة ومن مفرداتها ومنّي، وأشرك معه كلّ من كان في الفصل، وتحوّلت مادة العلوم إلى درسٍ اسمه ” الكوميديا “، كان جبيني يتصبّب عرقاً وأنا ابن إحدى عشرة سنة..

رمى بدفتري في وجهي، وأكمل درس العلوم، وعندما كان يشعر بالملل، كان يعيد عبارة من العبارات التي كتبتها بطريقة مسرحيّة، ويضحك ليضحك معه كلّ من في الفصل، حتّى تقوّس فمي وبكيت في آخر الأمر.

عدت إلى البيت، عدت ورميت بالدفتر في درج الكومودينا، وتكوّمت باكياً في سريري، أسبوع كامل من الكآبة والحزن والحسرة.

لم آكل جيداً، لم أنَم جيداً، لم أنتظم في دراستي، كنت أصحو، وأبكي، وأغيب، وأنام، وأصحو، وأبكي، و، … و .. أنام.

ولم أفتح درج الكومودينا لمدة سبعة أيام..

أهلي لم ينتبهوا لما كان يحدث معي، عدا جدّي الذي دخل إلى غرفتي، وسمع منّي كل شيء ، ثمّ سألني:

– أين الذي كتبت!

أشرت إلى الدرج، وفتحه ثم أغلقه بسرعة، ثمّ صرخ فيّ بصوتٍ عالٍ وهو يشير إلى فمه:

– ” هيي، أطعم مخلوقاتك ” .

ثمّ خرج من غرفتي غاضباً..

فتحت الدرج، ووجدت كل من كتبت عنهم في القصة ممددين خارج الدفتر، جوعى، عرايا، عطاشى، بعضهم كان يصرخ من الألم، بعضهم كان يوجّه لي الشتائم والسباب ويلعنني عند الله، بعضهم قفز من سور الكومودينا وهرب، ووجدت البعض الآخر ميّتاً بين السطور..

كلهم كانوا ينظرون إليّ بعتب شديد، وبغضب شديد.

فهمت عندها ماالذي كان يقصده الرجل الكبير؛ بأن أطعم مخلوقاتي، كان يقصد أن أكمّل ما كتبت مهما حدث، أن أغذّي أفكاري وكلماتي وشخوصي والأحداث، حتّى لا أفقد شخصاً آخر.. حتّى لا أفقد شخصيّة أخرى.

حتّى لا أفقد فكرة، ومهما كلّفني الأمر يجب أن أستمرّ في الكتابة، وألا أنسى نصّا في درج.

ناديت كل من كتبت باسمه الذي أعرف، وبدأت في عدّ الموتى، والمرضى، ودفنت من دفنت، وداويت من داويت، وأكملت الكِتابة، كنت أفتح درجي كلّ يوم، وأطعم كلّ من في الدفتر وأسقيهم حبراً وكلاماً، ثمّ أنام ..

وبرغم أن الأحداث تغيّرت لأني فقدت العديد من الشخصيات، إلا أنّني تعلّمت أول درس في الكتابة:

ألا أنسى إطعام مخلوقاتي كلّ يوم.

ماعاد عميقاً صدر أبي .

350406814

زامل سرحان
1359 – 1434
——————————————————-

كان جدّي الكلام , وكان أبي البئر .

كان بئراً عميقاً لدرجة أنّ حسين سرحان لم يكُن يلقي أيّ شيء فيه , بل كان يخلع كل ملابسه , و يأخذ معه كل همومه , وكل علاقاته , وكل أسراره , ويُلقي بنفسهِ دفعة واحدة داخله , ويغيب عنّا يوما واحداً , او اثنين , ثم يعود للدنيا مبللا بالشّعر وبالكلام الجميل .

لكن جدّي لم يعد بعد يوم أو اثنين منذ آخر مرة قفز فيها إلى صدر أبي , قفز وفي يده حقيبة سفره وبكامل ملابسه هذه المرة ..

منذ أن غاب حسين سرحان آخر مرة في العام 1413, لم يعد ; وبكى عليه زامل بطريقة مختلفة وغريبة أفزعتني , حيث كان الماء يدخل إلى عينيه ولا يعود ; أصبح هذا النوع من البكاء مألوفا لديّ الآن .

الآن مضى على غياب جدّي عشرون سنة ولم يعد من داخل البئر , وفهمت أن جدّي توفّى , وفهمت أن أبي توقف عن البكاء , ومرض البئر بعدما مات الكلام .

قبل خمس سنوات ماعاد عميقاً صدر أبي , وكنّا نُلقي في داخله كلاماً وندعو ربّنا أن ترتد إلينا قصيدة ..
وكان الكلام يعود سريعاً , وحيداً , وجافاً , وبلا أي قصيدة برفقته , ماعاد عميقاً بئر جدّنا , وفهمنا أيضا وقتها أنّ البئر لا يعيد سوى كلام صاحبه الذي ألقى بنفسه فيه منذ عشرين سنة ولم يعد .

قبل أيّام عندما وقفنا على القبر المفتوح أنا وإخوتي لم نذرف دمعة واحدة , أصبحنا نعرف أنّ بئراً بذاك العمق لا يمتليء بهكذا ماء .

فبدأنا نبكي مثلما كان يبكي هو , بطريقة مختلفة , وغريبة , ومفزعة , كان الماء يدخل إلى أعيننا ولا يعود .