نـوح وبـروتـوكـولات الـفــراق

 

قبل آلاف السنين ..

هناك ..
حيث المعصية , حيث الخيانة , الدّسيسة , المؤامرة , والغدر ..
على أرض قاحلة , لا مطرَ ينزل عليها , ولا نهرَ يمرّ بها , ولا بحرَ تطلّ عليه ..
حيث لا برد , ولا سلام .
على هذه الأرض التي تشبه قلوب العاشقين في الأرض ..
كان نجّارٌ اسمهُ نوح يبني سفينة , وقبيلة كاملة تسخر منه .

نوح الذي أحبّ قبيلته , كان يؤمن بشيء غامض , وقبيلته تكفر بشيء جليّ وواضح ..

نعم , ..
كالجدل الذي يحدث دائماً بين من يقع في الحبّ , وبين من لم يعرفه ..
يزداد الحبّ غموضاً لمن وقعوا فيه , ويزداد الحبّ وضوحاً لمن لم يتورّطوا به ..
هذا هو الكمين الذي تنصبه ملائكة الحبّ دوماً ..

دائما نحن ننظّر في أمور الحب ونحن خارجه , ..
ثم نسأل الآخرين عنه بعدما نتورّط فيه ..
في ذاك الوقت ..
بكت السّماء شهوراً طويلة , بكت بعنف وبقوة وبغزارة ودون توقّف ..

غادر نوح قبيلته , كما يغادر كلّ العشاق .
غادر حزيناً , وحيداً , محطّمَ القلب , مكسورَ الجَناح , مخذول , غير مصدّقٍ , ..
و .. متعب .. متعبٌ جداً .. جداً .

لم يصدّقه أحد , كما يُنكرنا الآخر دوماً .
لم ينتبه له أحد , كما يتجاهلنا الآخر دوماً .
لم يهتمّ به أحد , كما ينسانا الآخر دوما .

 

وكما حدث وقتها ..
يومَ بكت السّماء , وبكى نوح , وبكت الطيور , والوحوش , والخِراف الصغيرة , والأشجار , والجبال .
نحن نبكي أيضا عند الرحيل , عند الخذلان , عند الفراق , عندما يكفر بنا من أحببناهم ونكفر بالحبّ من بعدهم ..
نبكي دون توقّف حتّى ينتهي كلّ شيء ..
حتّى يفيض الدّمع , ويُقضى الامر ..
ثم نرحل ومعنا القليل من الذكريات , القليل فقط ..
لأن الكثير قد يقتل ..
نأخذ معنا ما يكفي لإنشاء حياة جديدة .. تماما كما فعل نوح .
بينما انغمست قبيلة نوح في المعصية , في الرذيلة , في الخطيئة ..
انتهت العلاقة بين نوح وقبيلته ..

هكذا تنتهي كل العلاقات الكبيرة .
تنتهي بغضب , تنتهي بعنف , بقوة , بقسوة , ودون رحمة ..
وفي مشاهد أقل ما يُقال عنها أنّها مأساوية , ومرعبة , وصادمة , ومذهلة , ومخيفة ..
أغرق الله الأرض بالكامل ورحل نوح ..
بكت السّماء كلّها , بكاءَ غضب ..
الملائِكة كانت غاضبة , الشياطين كانت خائفة , والطّيور في السّما كانت تحلّق دون توقّف , والله يراقب الموقف ..

وهكذا كما كان يحدث من بداية التاريخ ..
رحل نوح , مثلما رحل لوط قبل أن تنهمر النيران من السماء على قبيلته ..
وغرق آل فرعون بعد أن شقّ موسى البحر ورحل ..
ورحل محمّد من مكة إلى المدينة , ورُفع عيسى للسّماء , وهام إبراهيم على وجهه بين أور وفلسطين والحجاز ومصر , وقُتل يحيى , واختفي إدريس ..

إنّ الفراق أيضاً يشقّ القلب , ويحرقه , يعيّشنا في حالة كبيرة وطويلة من التّيه , وقد يقتلنا أحيانا , يفعل بنا كلّ شيء , كلّ شيء …

كل الأنبياء غادروا , أو اختفوا , أو قتلوا ..
بمعنى أدقّ :
رحلوا , كل نبيّ رحل بطريقة مبتكرة وخاصّة , أو غامضة ..
بعد أن مرّوا بتجارب حبّ فاشلة مع ذويهم .
وكلّ العشّاق يرحلون , أو يموتون , .. أو يختفون في ظروف غامضة ..
بعد أن يمرّوا بنفس التجربة .

تماماً ..
هذا ما يحدث عندما ينهار كلّ شيء ..
عند الغدر , أو الخيانة , أو الفراق , …. بكاء .. ودموع , وعذاب وعذاب وعذاب .
يجب أن تعلموا أن بكاء الحبيب المستمر , والكثيف , والمتواصل , والصادق .. عذاب .
عذاب لنا , وعذاب للآخر .
لكنّ عذابنا يبدأ ببكائنا , ثمّ ينتهي ..
وعذاب الآخر يبدأ عندما ننتهي من البكاء .. يبدأ عندما نمضي .
عندما يتوقف المطر , ويغيض الماء , ويُقضى الأمر .
عندما خُذل نوح لم يغادر وحده , وإلا لفَنى , وفنى الجنس البشري كلّه ..
ولما كنتم الآن على هذه الدّنيا تقرأوني الآن ..

غادر ومعه القليل من كل نوع ومن كل جنس ومن كل صنف ..
الخِراف , الحمام , العصافير , الخيول , الصّقور , الكلاب , القردة , الفيَلة ..
حتّى الحشرات الضارة , حتى الحيوانات المفترسة , حتّى الزواحف السامة ..

ونحن أيضاً عندما نغادر , يجب أن نغادر ومعنا القليل من كل شيء ..
القليل من الذكريات , من الآلام , من اللحظات الجميلة , من الضحك , البكاء , الحزن , السعادة , التعب , الراحة ..
يجب أن نأخذ القليل حتى نعيش .
لأننا لو أخذنا كلّ شيء قد نموت كمداً ..
ولو غادرنا فُرادى , نموت حسرة , ونموت وحدة ..

هكذا يجب أن نأخذ معنا بعض ذكرى ..
الذكرى الحلوة والمرة , الحزينة والسعيدة , المؤلمة والمريحة , الضارة والنافعة , حتّى القاتل منها يلحق بنا في آخر الرّحلة ويتسلّق حبل المَرساة ويغادر معنا خِفية في جنح الظلام .
إن لم نرفع المرساة بسرعة سترافقنا كلّ الذكريات القاتلة طول الرحلة , إن لم نغادر بسرعة سنشقى ..
يجب أن نغادر إن خُذِلنا , ولا نكابر ..
المكابرة وقت أن وجب الرحيل انتحار , لا جبال تعصمنا من الماء .. وقت أن مات ابن نوح كان يكابر , صعد للجبل الأعلى في المدينة وقال :
” يعصمني من الماء ” , ثمّ غرق ..
لأن مدّ الحقيقة كان أعلى , لأنّ صوت الغضب كان أقوى , لأن يد الخالق كانت أكثر طولاً ..
كان يجب أن يؤمن بالله ويرحل مع أبيه , ومع بعض الذكريات البسيطة ..
هكذا يجب أن نفعل , يجب أن نؤمن بالحبّ وإن كفر بنا , ثم نرحل

إن فورة التنّور كانت علامة الله لنوح ليستعدّ للرحيل , وحُرقة القلب علامة الله للعشاق ليستعدوا للمغادرة ..
إنّ المطر المستمر دون توقف كان علامة الله لنوح ليرحل , والبكاء المستمر دون توقف علامة الله للعشاق ليرحلوا ..

وقت أن نبكي يجب أن نترك كل شيء وراءنا إلا مايبقينا أحياء .
دون أن نلتفت للخلف , نوح بعد أن عصاه ابنه لم يلتفت إليه _ في المشهد الأخير _ ونجا , لوط لم يلتفت باتجاه سدّوم وعموريّا ونجا , وامرأة لوط قرّرت _ في الطريق إلى خارج عمّورية _ أن تلتفت وتُلقي نظرة أخيرة على ذكرى أخيرة فسخطها الله تمثالَ ملح .

لذلك ..
فالملح الذي ينزّ من أعيننا ويشق طريقه إلى قلوبنا , يحدث لأننا نلتفت , لأننا نتذكّر .

الذكرى بقدر ما تقتلنا في بداية الأمر إلا أنها تبعثنا من جديد
في قوانين العشق والعشاق , من يغادر ساحة الحبّ وحيداً يموت وحيداً

 

 

الفراق مرحلة منهكة , وجميلة أيضاً في عرف الغرام
الفراق عملية صعبة , صعبة جداً بل أحيانا قد تكون قاتلة
الفراق هو المرحلة التي يعرف كل عاشق أنه سيمر بها , ومع ذلك يحاول أن يتحاشاها بكل ما أوتي من قوّة

وكأنه يحارب القدر نفسه , .

لا يعرف أغلب العشاق أن الفراق بالنسبة للعارفين بأمور الغرام هو مرحلة كما فيها الكثير من العذاب ففيها الكثير من المتعة , مُتعة لا نريدها , ولا نتحكم بها , ولا نتوقّع متى تنتهي , ونحتار كثيراً في التمنّي :
هل تنتهي , أم لا تنتهي ..
سيما لو آمن الآخر بأن من يشاركه قلبه هو حبيب العمر , حيث أن السهر والتفكير والتعب والبكاء واللّوعة والهيَمان في صورة وصوت الحبيب تعدّ متعة لا تضاهى , متعة تشبه العبادة وتشبه الصلاة تماما

حيث الخضوع , حيث الدعاء , حيث المناجاة , والرجاء , والأمل , واليقين بالاستجابة .

هذه المتعة لا تتأتّى إلا بالفراق , ولا يمكن أن تحدث خلال الوصال بهذه الكثافة , وهذا التركيز , وهذه المتعة العالية جدا , وهذا العذاب الغريب الذي نريده دوما عندما ينتهي .

هو مرحلة يريد كل عاشق أن ينهيها بانتصار , أي أن يعود إلى أحضان الحبيب مهما كلّفه الأمر

 

” الـحـضـن هـو انـتـصـار الـعـشّــاق ” ..

هو الأرض التي يحتلّها المنتصرون من أهل الهوى , ثمّ يتلقّون هزائمهم عليه .
العشّاق الحقيقيين يتجاوزون تلك المرحلة , مرحلة الفراق بوصال عنيف , والعشّاق الأقلّ رُتبة , يموتون كلّ يوم في انتظار معجزة , مثل العبيد تماما , الذين لا حول لهم ولا قوة ..

 

كونوا آلهة واصنعوا معجزاتكم بأيديكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.