العِشقُ عارياً

فأشهد عند الله أني أحبها *** فهذا ما لها عندي ، فما عندها ليا ؟! ..

قيس بن الملوّح .

————————–

ماذا حدث .؟! ..
مالذي جعل رجل , عاقل , جميل , وشاعر ; يُجنّ , ويخلع ملابسه , ويمشي عارياً في الصّحراء .؟! .
مالذي جعل ” قيس بن الملوّح ” يقرّر فجأة , وفي لحظة حاسمة سجّلها كلّ المؤرّخين , وكلّ المهتمّين بتدوين حكايات العشّاق , وقصّها كلّ حكّائي الدّنيا ; يقف , ويبدأ في إلقاء ملابسه قطعة قطعة , أمام النّاس , ويتمشّى ” عِرياناً ” لأسابيع ; في سابقة لم تحدث على الإطلاق في مجتَمع عربيّ قَبَليّ ومحافظ ..
لماذا لازمتهُ الحُمّى حتّى مات ؟! , ..
لماذا كان يضحك ويبكي في نفس الوقت ؟! , ..
لماذا كان يهذي بإسم ليلى ؟! , ..
لماذا كان يلعب بالتّراب , ويكتب اسم ليلى على التراب , ويحثو التّراب على وجهه , وعلى شعره , وعلى جسده , وعلى الآخرين ؟! ..
لماذا كان ينام ويأكل ويعيش مع الحيوانات , والطيور , ووحوش الصحراء .؟! .
ببساطة , وللأسف الشديد , الشديد بالفعل :
إنّهُ العشق .!

السؤال الأهمّ :
هل هناك امرأة تقدر على فعل ذلك ؟! .
ببساطة أيضاً , ولحسن الحظّ هذه المرّة :
( لا ) .! .
لأن المرأة تخبّي حزنها حتّى عن نفسِها , والرجل يُعلن حزنه لكلّ النّاس .
المرأة تعرف أن حُزنها سيسبب فضيحة , والرّجل يفتعل فضيحة ليقول لكلّ العالم أنّه في حالة حزن .
لذلك نجد أن المرأة أكثر تكتّما على مسائل الفُراق , والرّجل أكثر ثرثرة ..
لذلك نجد أن المرأة أكثر تماسكاً , والرّجل أكثر انهياراً ..
لذلك المرأة هي الأطول عمراً , هي الأطول صبراً , هي الأطول نفَسَاً , وهي الأقصرُ حبّاً ..

لكنّها تنهار في النّهاية , تسقُط من علوّ بعيد هي وكلّ سرّ حاولت أن تُخفيه , بينما الرّجل يقف على قدميه لينكر كلّ ما فعله في لحظة كبرياء , ..
غالباً , أستطيع أن أؤكّد أنّ تلك اللحظة قد يكون أوانها فات للأسف الشديد .

 
بطريقة أخرى , مالذي تفعله المرأة إن تحطّم قلبها ؟! :

” تشتري ثوياً أنيقاً ” .! .

المرأة تخلع حُزنها وتقف عارية أمام نفسها فقط , ثمّ تخرج للنّاس وهي ترتَدي أكثر ثيابها أناقة ..
لا بُكاء , لا وجع , لا انكسار , لا تعب , ولا دموع .
مالذي يفعله الرّجل إن تحطّم قلبه ؟! :
قد يصبح أكثر عُنفا , قد يصبح أكثر جنوناً , قد يصبح أكثر تهوّراً ..

وأيضاً ..
قد يُلقي كل ملابسه أمام المارّة في مكانٍ عام .

نعم , تماماً كما فعل قيس بن الملوّح .

الرّجل يتعرّى .. يَ تَ عَ رّ ى .

الرّجل يُلقي كل شيء أمام العالم ..
يلقي حبه , يلقي حزنه , يلقي عقله , تاريخه , كرامته , هيبته , سمعته … و… ملابسه إن لزم الأمر ..
أنا هنا لا أتكلّم عن الشّعور الداخلي ; الذي قد يختلف في واقع الأمر .
أنا هنا أتكلّم عن الشّعور الظّاهر للنّاس .

 

لكن قبل ذلك ..
وتحديداً قبل الحدث الأهمّ , والأغرب , والأكثرَ إحداثاً للدّهشة , أعني قبل أن يُلقي قيس أوّل قطعة من ملابسه , قطعة الملابس تلك التي حوّلت قصّة حب عاديّة إلى قصّة حبّ متفرّدة , ومثيرة , ومهمّة ..

هل سمعتم في التاريخ الإنساني عن امرأة جُنّت , عن امرأة قتلت , عن امرأة تاهت ..
من أجل رجل ؟! .
قد يندر أن يحدث ذلك .
إنّما المرأة التي جُنّ الرجل من أجلها , وقتل من أجلها , وتاه من أجلها , وفقد كلّ شيء من أجلها ..
ولكي أكون أكثر وقاحة ..

وتعرّى من أجلها .. لا تُبالي , أبداً لا تُبالي .

 
كما ترون ..
فالرّجل ; آدم ; صُنعَ ببراعة شديدة , وبدقّة بالغة , وبحكمة لا متناهية , وبعبقريّة لا تُضاهي ..
صُنعَ ليتحمل المرض , ليتحمّل الهزيمة , ليتحمّل الوجع , والحُزن , والغربة , والمسئوليّات الكبيرة .

صُنع ليتحمّل البرد القارس , ليتحمّل الحرّ الحارق , ليتحمّل الحوادث , ليتحمّل الطّعنات , طلقات الرّصاص , الجِراح الغائِرة , ضربات السّياط , الصّلب , التعذيب , الحرق ….

قد يتعرّض للقتل لكنّه ينجو , قد يتعرّض للفشل لكنّه ينجح , قد يتعرّض للمرض لكنّه يشفى , قد يتعرّض للموت ; لكنه يموت بهدوء , وأناقة , وكرامة , وشجاعة ..

في الواقع صُنعَ الرجال ليتحمّلوا أشياء كثيرة , كثيرة , كثيرة ..
لكنّ فُراق الحبيب ليس أحد هذه الأشياء .. بالتأكيد .

 
رجل واحد فقط , لم تغلبه امرأة .
رجل واحد عرف أنّه إن ذاب في العشق , سيتخلّى عن أقدّم , وأوّل , وأهم , وأعلى صفة أعطاها الله لآدم , سماويّته .
هذا الرّجل أنكر المرأة , ليدّعي النبوّة .

” أبو الطيّب المتنبّي ” .

 
المرأة لا تقتل من أجل من تحب , المرأة تقتل من تحبّ
كما فعلت سالومي الراقصة , التي أحبّت ” يحيى ” , ثمّ حرّضت على قطع رأسه , وقُدّم إليها على طبق من فضّة .

كما أنّها قد تسجنه كما فعلت زُليخا .
وقد تقوده إلى الجنون مثلما حدث لقيس , قد يموت بالسم مثل روميو , أو قاتلاً ومنتحرا مثل عطيل , ..

راقبوا ما يحدث في هذا العالم .
يعلّق الرجال على المشانق من أجل المرأة , ويُردون رميا بالرّصاص من أجلها أيضاً , وتقطع أعناقهم , وأياديهم , وأقدامهم .. كلّ هذا يحدث من أجل امرأة .

تلك المرأة .! ..
آآآخ .! , تلك المرأة التي تطوي ذكرياتها مع هذا الرّجل بعد موته , أو غيابه , أو جنونه , أو مرضه , ثم تلقيها خلف ظهرها كصحيفة أمس .

 

 
في التاريخ .. نحن نخلّد الرّجال , ..
أحياناً لأنهم أكثر عشقا , أحيانا لانهم أكثر كرها , ..
أحياناً لأنهم أكثر تهوّراً , أحيانا لأنهم أكثر رزانة , .. أحياناً لأنهم أكثر شفافية , أحيانا لأنهم أكثر غباءًا .. أحياناً لأنّهم أكثر حُزناً , أكثر بهجة , أكثر فُروسيّة , أكثر خيبة , أكثر شجاعة , أكثر موهبة , أكثر نزقاً , أكثر إبداعاً ..

 

ولكننا غالبا ما نخلّدهم لأنهم فعلوا ما لم نستطِع أن نفعله نحن :
” جُنّوا ” ..

” جنّوا ” :
يشكّ بعض المؤرّخين في وجود ليلى العامريّة في الأساس .! .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.