لأن الكتابة فن … وتردد

” أفلاطون ” .. كتب السطر الأول من محاورة ” الجمهورية ” .. خمسين مرة . .

” هيمنجواي ” .. كتب الصفحة الأخيرة من روايته ” وداعاً للسلاح ” .. اربعين مرة ..

ذكرت هذا سابقاً .! ..

هذان العبقريّان تخرّجا من مدرسة , أنا التحقت بها منذ صغري ..

مدرسة ” المتردّدين ” ..

لولا التردّد الذي يصاحب الكتابة , ولولا الارتياب , والوسوسة , والقلق , والأخذ والرد , والمسح والشّطب , والحذف والإعادة , والخوف ..

لما عرفنا أفلاطون , ولا همنجواي ..

كما ترون ..

المحاولة الخمسين للسّطر الأخير لمحاورة ” الجمهورية ” , والمحاولة الأربعين لكتابة الصفحة الاخيرة لرواية ” وداعاً للسلاح ” ..

هي ما أنجح هذين العملين ..

نحن كقرّاء لم نعرف ماذا كتبوا في الـ 49 أو الـ 39 محاولة الأولى ..

هم فقط الذين يعرفون ماذا حدث وقتها , ولماذا تردّدوا , وأنّ ارتيابهم المستمرّ كان سبباً في معرفتنا بهم .

لأنني طلبت في وقت ما حذف موضوع ما ..

استغربت إحدى الزميلات تردّدي المستمرّ بينما كنت أنا في منتصف الثلاثينات وقتها , وفي الحقيقة أنا حاسم في أموري كلّها إلا أمرين ..

الكِتابة , والحبّ ..

طالما أنا مستمرّ في الكِتابة , ومستمرّ في الحبّ ..

تتغذى الكِتابة على التّكرار , ويتغذّى الحب على الارتياب .

في فنّ الكِتابة هناك مدارس كثيرة .

الكتّاب الأكثر شهرة , والأكثر إمتاعاً , والأكثر جاذبيّة , والاكثر جنوناً ..

يتخرّجون من مدرسة المتردّدين , والكتّاب المغمورين بالكاد ينجحون في مدارسهم الأخرى ..

بالنّسبة لي , لا أعتبر نفسي ” مكنة طباعة ” , أنا أكتب مشاعري التي تتغيّر كلّ ساعة , وكلّ دقيقة , وكلّ ثانية ..

اكتب ارتباكي المستمرّ , وأكتب قراراتي المتخبّطة , وأكتب مناوراتي العاطفيّة التي قد تتغيّر تبعاً لتغيّر سير المعركة التي يخوضها قلبي مع المرأة التي ترفع سلاحها في وجهي ..

من يكتب دون تفكير , ودون تغيير , ودون تشخيص لحالته التي يمرّ بها وقت الكِتابة سينسى مع مرور الوقت ما كتب ..

لن يتذكّر حرفاً واحداً .. ولن يتذكّره أحد .

ما أكتبه .. تحديداً ما أكتبهُ من نصوص ; هو قطعة من كبدي ..

من القلب , ومن الرّوح , ومن التّجارب المضنية في هذه الدّنيا .

أنا أتعب كثيراً حتّى أنشر , وأتعب كثيراً بعدما أنشر ..

الكتابة لديّ ليست بالسّاهل ..

لديّ نصوص تتألّف من عشرين سطراً كتبتها في أربعة أشهر , ونصوص تتألّف من أربعة أسطر كتبتها في عشرين شهراً ..

أنا لا أكتب نصوصي كيفما اتّفق , بسرعة وفي نفس اللحظة ..

لا أعاشر نصوصي كما تُعاشَر عاهرة , .. ليلة والسّلام .. ساعة وانتهت القصّة , ولا نعرف بعضنا بعد ذلك , ولا نتذكّر بعضنا البعض إن التقينا بعد شهور ..

بعض الكتّاب لا يتذكّرون قصائدهم , لأنّهنّ بنات ليل ..

أنا أعرف بنات أفكاري كما أعرف أولادي ..

كما أعرف النّدوب التي خلّفتها الجراح على وجوههم .

كما أعرف طريقة مشيهم , كلامهم , ضحكهم , بكائهم ..

كما أعرف لون أعينهم , لون شعرهم , لون بشرتهم , ..

فأنا أعرف عادات كل نصّ , ومزاجه , وطبيعته ..

أعرف النّص الضال , والنّص المحترم .. أعرف النّص الطّائش , والنّص المتّزن .. أعرف النّص الجميل , والنّص البشع ..

وأحياناً ..

أعاشر نصوصي معاشرة العشّأق , كلّ يوم نتعب في ممارسة الشّعر ..

نعرق , نلهث , نصرخ , نبكي , و .. نتمتّع ..

نبدأ سويّا في الوقت نفسه , وننتهي سويّا في الوقت نفسه..

مهمّ أن أنتهي أنا وكلامي في نفس الوقت , وأن نصل لأورجازِم الكتابة في نفس الوقت ..

وإلا .. أعيد الكرّة مرّة بعدَ مرّة بعد مرّة .. كما تلاحظون دوماً ..

أفعل هذا كثيراً حتّى أتأكّد أنّ كلامي لقّح الفِكرة في الوقت المناسب

وأنّ شِعري وصَل للذّروة ..

وأحياناً ..

أتعامل مع نصوصي كامرأة لا تلد , كامرأة لديها صعوبات كبيرة في الإنجاب ..

أحاول أنا وهي أن نلجأ لكلّ الطرق حتّى تحبل , وتنجب ..

هذا الأمر بالنّسبة لي ولها يحتاج لشهور طويلة , من العلاج , والمتابعة .

الفكرة التي تحبل بسرعة , أقطع علاقتي بها .. وأنكر معرفتي بها .

الكِتابة هي التردّد , والارتباك الجميل .

إن ارتجاف القلم في أصابعي , هو الذي يخلق تلك الرّشّات الجميلة والتعرّجات الغامضة على الورق ..

إن الحجر العاشر الذي ألقيه في بِرَك الكِتابة الرّاكدة , هو الذي يرسم تلك الدّوائر الجميلة والمتداخلة على السّطح ..

إنّ أكوام الورق الممزّق والملقي بشكل فوضوي وغير حضاري في صفيحة الزّبالة لمحاولة كتابة بيت شعر واحد , هي ما تجعلني أقف منتصباً وأنا في كامل أناقتي الشّعرية أمامكم خارج غرفة مكتبي ..

بعض من يعرفني عن قرب سمحت له أن يشاهد ذلك كلّه , أن يشاهد كومة الأحجار في يدي , وأن يشاهد ارتجاف أصابعي , وأن يشاهد سلّة المهملات تحت مكتبي ..

والبعض الآخر لا يحظى سوى بمشاهدة الرشقة الأخيرة في القلب

لأنّ الكِتابة فنّ , … ………………. ونفس طويـــــــل

هذا إهداء لمن يستسهل الكِتابة .. في ظل جرأة دور النشر .. على النشر لكل من هبّ ودب ..

” أفلاطون ” .. كتب السطر الأول من محاورة ” الجمهورية ” .. خمسين مرة . .

” هيمنجواي ” .. كتب الصفحة الأخيرة من روايته ” وداعاً للسلاح ” .. اربعين مرة ..

” فرجيل ” .. كتب التاسوعات في عشر سنين , ثم ابعدها عن عينيه خمس سنوات .. ثم نشرها بعد ذلك , وهو يقول ناصحاً : ” أكتب .. أكتب .. واترك ماكتبت بضع سنوات لتعود إليه ثم تختصره , واتركه سنة , ثم عد إليه لتختصره .. ثم انشره بعد ذلك ” .. . .

 

( والآن أصبح نشر كِتاب , أو ديوان شعر , أو رواية , أسهل من نشر الغسيل )