سارق الحبال .

بكيتُ عند قبرها , ..
وحيداً كنتُ عند القبر , كانوا كُثار لكنّهم لم يروني , كنت وحيداً كالعادة ..

وحيداً عند القبر حيث تنبت في قلبي بينما أقف شجرة حُزنٍ كبيرة .
ولا قطرة مطر , ولا حبّة بَرَد , ولا نُدفةَ ثلج , ..
لا عصافير تقف , ولا : ( البقية في حياتك / قلبي معاك / أحبك ) ,
لا غريب يعزّي , لا صديق يمرّ , ولا حتّى عزول ..

كان يمدّ يده داخل فمِّ جدتي :
” إلحق .! , شكل جدتك توفت ” ..
لم تكن قد توفّت بعد , لأن يدهُ لم تخرج بالكامل ..
رأيت روحها تنسلّ كحبلٍ أبيض طويلٍ ومجدول من فمها ..
وهو يسحبه ببطء وعِناية وحرص , لم يرهُ أحدٌ غيري ..
أنا الوحيد الذي رآه يمد يدهُ ويسحب الحبل , لم يرهُ غيري ..
لم يأتِ من أجل النقود , لم يأتِ من أجل المجوهرات , لم يأتِ من أجل أن يسرق حُجّة البيت , جاء فقط ليسحب الحبل الأبيض الطويل المجدول من فمها ..
سحبه كلّه , تقريباً سحبهُ بالكامل , وميّتين كُثار يمشون عليه في وقار..
وهم لا يستطيعون رؤية هذا كلّه , أنا الذي يرى فقط , أنا الذي يفهم , وهم يصرخون :

” جدتك ماتت ” ..
– لا , لسه شوي ..

لازال الحبلُ طويلاً ولم ينتهِ بعد ..

في العقدة الأخيرة غصّت جدتي .. شهقت , ثمّ جرّ الحبلَ بقوّة ..
هنا فقط أستطيع أن أؤكّد لهم أنّها ماتت .

بكل جرأة جاء أوّل يومٍ في العزاء , شربَ قهوته , ثم قامَ مع المعزّين , ولما وصلَ إليّ مدّ يدهُ يأخذ بخاطري وكأنه لم يسرقني قبل ذلك مراراً ..

سرقَ جدي , سرقَ أختي , سرقَ جدتي ..
وأعلم أنّه يخطّط الآن لسرقتي أنا ..

كان يجمع الحبال عنده , سرق حتى الآن ثلاث حبال طويلة ..

وأنا أقف وحيداً هناك عند قبرها ..

ولا قطرة مطر , ولا حبّة بَرَد , ولا نُدفةَ ثلج , ..
لا عصافير تقف معي , ولا : ( البقية في حياتك / قلبي معاك / أحبك ) ,
لا غريب يعزّي , لا صديق يمرّ , ولا حتّى عزول ..

– هل تكلمت عند القبر ؟! ,
كانت تقول إن دفنتموني كلموني , الميت يسمع وقع الخُطى بعد الدفن

.
.

– هل تكلمت عند القبر ؟!
كانت تقول إن دفنتموني كلموني الميت يسمع وقع الخُطى بعد الدفن

– هل تكلمت عند القبر ؟! ..
كانت تقول إن دفنتمـ ..

( بكيْـ .. تُ كثيراً وما تكلمتُ كثيراً ) ..

بكيتُ هناك , هناك وحيداً , وحيداً عند القبر , عند شجرة الحزنِ الكبيرة التي في قلبي ..
حيث لا قطرة مطر , ولا حبّة بَرَد , ولا نُدفةَ ثلج , ..
لا عصافير تقف , ولا : ( البقية في حياتك / قلبي معاك / أحبك ) ,
لا غريب يعزّي , لا صديق يمرّ , ولا حتّى عزول ..

هناك بكيت .. حيث البكاء هو :
[ أن ينزل جدي وأختي وجدتي سوياً من عينيّ , يتدحرجون بسرعة , أو ينزلقون ببطء ] ..

قبل سنتين كان ينزل جدي فقط ,
قبل أسبوع كان ينزل جدي وأختي فقط ..
الآن ينزلون كلهم , جدي وأختي وجدتي من عينيّ ..
هناك بكيت
حيث ينزل الموتى من عينيّ ؟! , أبكي هكذا الآن ..

حيث ينزل الموتى من عينيّ ..

One thought on “سارق الحبال .

  1. يقول swan:

    مازن ..

    ( البقية في حياتك / قلبي معاك / …..)

    أنا أشم الموت يا مازن .. عند جدتي زجاجة من عبق الموتى تخبئها, ترينيها كلما دخلت عليها
    وكلما دلفت إلى تلابيبها وجدت ريحاً منه تلّــفني .. رائحة الموت, ورائحة السنين
    أكذب عليك يا مازن إن قلت أني لا أهاجس بفقدها, وكيف أنني قد لا أرى بصمات الحياة التي تنطق في وجهها بوضوح
    تجاعيد وجهها, بشفتيها الصغيرتين اللتين تهويان نحو ذقنها ,جبينها الذي تتلو عليه كل حكايا الماضي
    حين تحادثنا عن حرب إيران, حسين كامل .. وكيف اغتال مجندو صدام والدها
    كيف سرقها جدي من طفولتها وهو كهل … كيف جرحها مراراً, كيف أهانها وكيف يغفو وهي أبداً لم تنم
    وكيف تبكي عيناي كلما توسدتُ ذكرياتها ..
    وكيف لا أفتأ أشم رائحة الموت في أحضانها وخطوط كفها وفي شعرها الأجعد الذي تتزحلق عليه الأشباح, في كلها ..

    مازن:
    عمِّر بسمتك للقادم ..
    فأنت روح الأوجاع الشابّة
    ومتطلع أنفاس الذكريات
    ترّفع في وضح النهار
    واسطع كـ شمس لا يؤفلها غيم
    وابقى بازغاً في سمانا
    مقولباً بالعافية ..

    و..

    ( البقية في حياتك / قلبي معاك / …..)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.