الكِتابة من غير أجنحة .

حتّى أتقن الكتابة وحدي، كان يجب أن أقوم بالقفزة الأولى وحدي.

حدث هذا منذ سنوات طويلة جداً، قفزت ورفرفت كثيراً ولم أرتفع أيّ سنتيمتر في الهواء،

بل وقعت على منقاري.

لم أتحدث مع أحد عن خيبتي الكبيرة، ولم أعرف كيف أعود للعش الذي بناه جدي لي، لكنّي تسلّقت الشّجرة مليئا بالخدوش ومليئاً بالإهانات الكثيرة، كان عاراً على عصفور أن يتسلق شجرة، لكنّي كنت مضطرا لهذا.

كان عاراً على مخلوقٍ بأجنحة أن يتسلّق شجرة جنبا إلى جنب مع الزواحف والجرذان والسناجب.

كان ” شكلي بينهم ” شاذا وغريباً.

لكنّي لم أهتمّ، وصعدت، وقفزت مرة أخرى، وسقطت مرة أخرى، وتسلّقت الشجرة مرّة أخرى.

حتّى قُمت بأوّل رحلة طيران.

نعم !، كِتابة أوّل نصّ بشكل سليم، شيء أشبه بالطيران بلا أجنحة.

حسين بقلم زامل

085939966135

 

الأديب الشاعر حسين سرحان

هو حسين بن علي بن صويلح بن سرحان من قبيلة الروسان (روسان المراوحة )من (برقا) بطن من بطون عتيبة المعروفة.
هجرة الروسان (مصدة)شمالا عن الدوادمي بحوالي 12كم, وشيخ القبيلة بن جامع, وهم يسكنون مصدة و الدوادمي, و قسم منهم في مكة. و قد استقر والد الشاعر في مكة المكرمة في حي المعابدة. جده لأمه (عبيد الله بن سرحان) تولى مشيخة المعابدة منذ دخل الملك عبد العزيز مكة, و قبل دخول الملك عبد العزيز في عهد الشريف عون كان ( أمير المعابدة )عمر بن سرحان أخا لجده صويلح.
و السراحين أعمامه و أخواله من الذين عاصروا الدولة السعودية لهم مكانة عند آل سعود في الخدمة و الرأي, و يعتمد عليهم في المهام الكبيرة كالنزاعات عند البادية.
أما والده علي بن سرحان فقد أوكل إليه من الملك عبد العزيز مراقبة بيع المواشي و كان يحسب رأيه في تقدير أثمانها و أنواعها.
بيت حسين سرحان معروف في المعابدة و هو مفتوح الباب للضيف و الطرقي و مرتادي مجلس القهوة الرسمي سواء في الصباح أو العصر, و على عادته فهو يجلس صباحا و مساء و يضيفهم و يحادثهم عن أحوالهم و يتناول معهم مطارحات شعرية و يروي كما يروون قصص و أشعار من سبق.
و حسين سرحان يجيد نظم الشعر النبطي و يحفظ الكثير منه, هذا خلافا عن نظمه للفصحى.
ولد الشاعر بمكة بين آخر 1332-1333 في حي المعابدة, و نشأ فيها و عاش بها إلى أن وافاه الأجل عام1413 في 6 من ذي القعدة.وقد تزوج من ابنة عمه من سكان مصدة عام1350 وله من الأبناء محمد رحمه الله توفي سنة1386 ومن البنات مزنة وهيا وقد توفيتا وبقي ابنتان وهما زهوة و فوزية.
كان كثير السفر في داخل المملكة و خارجها, فقد سافر إلى مصر وبيروت و العراق و الشام. وقد كان يرافقه في بعض سفراته الشيخ حمد الجاسر إلى بيروت ثم إلى بلاد أوروبا. و خلال هذه الرحلة طبع ديوانه (أجنحة بلا ريش).
أطول سفر غاب فيه كان إلى عسير حيث غاب سنة كاملة في مهمة أوكل بها, و قد قال كثيرا من شعره و بعض النثر وهو هناك.
كان يذهب بمعية الملك فيصل عندما كان نائبا في الحجاز إلى بعض المناطق الداخلية, و كان يرتاد مجلس الملك فيصل في الطائف.
وردت له ترجمات كثيرة في عدة كتب, و ممن كتب عن ترجمته محمد سعيد عبد المقصود و عبد الله بلخير في كتاب (وحي الصحراء), و عبد السلام الساسي في كتابه(شعراء الحجاز في العصر الحديث) كما ترجم لنفسه في بعض مقالاته.
درس في الكتاتيب على أيدي عدة مشايخ منهم باحميش و الشيخ محمد العلي التركي و الطيب المراكشي و غيرهم سواء في الحرم أو خارجه أو في مدرسة الفلاح, و أهم ما درسه في أوائل تعليمه الخط و بعضا من اللغة العربية ودرس فنونا من التفاسير و شروحا في الفقه الحنبلي و الأحاديث النبوية, و التحق بمدرسة الفلاح لكنه لم يبق بها إلا للسنة الثالثة, فقد كان الالتزام مع المدرسين يحرمه كثيرا من الوقت الذي قد يصرفه في قراءة خارجية في شتى المواضيع, فهو مولع بالقراءة في كل وقت فهو يقرأ ما يكون تحت يده, أو يدركه من يد غيره.
كان شاعرنا منذ سن مبكرة يكتب شعرا و نثرا و أقاصيص و مسرحيات و أشعارا نبطية, و قد نشرت الصحف و المجلات السعودية الكثير منها, و كذلك بعض المجلات و الصحف الخارجية.
و قد طبع في حياته عدة دواوين وهي أجنحة بلا ريش و الطائر الغريب و الصوت و الصدى.
أيضا مجموعة (من مقالات حسين سرحان )جمعها د/يحيى جنيد, و رسالة في الأدب و الحرب.
كما ضاع من أدبه الكثير منها ما احتواه الكوبر الذي كتب عنه الكثير, و من ضمنها مجموعة لديوانين (حادي العيس )و (هدهد سليمان ).
كيف و متى يكتب ؟
لم يلاحظ أن هناك وقتا محددا لممارسة الكتابة لكنه كان يكتب في المساء –ليلا- و هو كثيرا ما يكتب بالقلم الرصاص كما أنه قد يملي أحيانا.
كان يجلس متربعا و يسند الدفتر إلى فخذه فيبدأ بالكتابة من منتصف السطر, فيسترسل في الكتابة و كأن أحدا يملي عليه حتى يصل إلى نهاية الموضوع. وهو لا يعيد قراءة ما قد كتبه إلا ما ندر و لا يعدل أو يلغي أو يحذف إلا خلال الكتابة و قبل أن يدخل في ما بعدها. و إذا توقف قبل إنهاء الموضوع فهو لا يكمله في وقت آخر و ربما يعود له بعد أشهر.
تميز ت كتاباته بالسلاسة و العذوبة و الفصاحة, كما أنه كان يستخدم في مفردات شعره ألفاظا عربية ؛نظرا لتعلقه بأهداب الثقافة العربية و قراءاته للمعاجم العربية كلسان العرب و المنجد و غيرها من كتب اللغة, و حفظه لأشعار السابقين. كما أنه كان مطلع على كل ما يصدر من كتب حديثة .
وقد منح شهادة البراءة في الأدب.
أما بالنسبة للوظائف التي شغلها, فقد كان ضمن حاشية الملك فيصل. كما عمل في مصلحة اللوازم, و في وزارة المالية ثم سكرتيرا للجنة التنفيذية لتوسعة الحرم المكي الشريف. كما قد طلب منه في الثمانينات أن يتهيأ لمنصب وزير لكنه اعتذر غير رافض مبديا أسباب الاعتذار للملك فيصل و قد عذره.  

 

——————-

 

بقلم زامل سرحان رحمه الله .

 

أطعم مخلوقاتك .

في الصفّ الأول متوسّط كتبت قصّة قصيرة، كنت فخوراً بها لدرجة أني عرضتها على مدرّس العلوم -مدرّسي المفضّل آنذاك – كان ابن حارتي، ابن حيّنا، كان لدى والده فرن كبير، وكنّا نأكل خبزاً ساخناً منه كلّ يوم، كان هذا الأستاذ مخلوقا لطيفا في نظري، حتّى عرضتها عليه ذلك اليوم، اليوم الذي قرأ فيه القصّة بصوتً عالٍ، وسخر من قصتي الصغيرة ومن مفرداتها ومنّي، وأشرك معه كلّ من كان في الفصل، وتحوّلت مادة العلوم إلى درسٍ اسمه ” الكوميديا “، كان جبيني يتصبّب عرقاً وأنا ابن إحدى عشرة سنة..

رمى بدفتري في وجهي، وأكمل درس العلوم، وعندما كان يشعر بالملل، كان يعيد عبارة من العبارات التي كتبتها بطريقة مسرحيّة، ويضحك ليضحك معه كلّ من في الفصل، حتّى تقوّس فمي وبكيت في آخر الأمر.

عدت إلى البيت، عدت ورميت بالدفتر في درج الكومودينا، وتكوّمت باكياً في سريري، أسبوع كامل من الكآبة والحزن والحسرة.

لم آكل جيداً، لم أنَم جيداً، لم أنتظم في دراستي، كنت أصحو، وأبكي، وأغيب، وأنام، وأصحو، وأبكي، و، … و .. أنام.

ولم أفتح درج الكومودينا لمدة سبعة أيام..

أهلي لم ينتبهوا لما كان يحدث معي، عدا جدّي الذي دخل إلى غرفتي، وسمع منّي كل شيء ، ثمّ سألني:

– أين الذي كتبت!

أشرت إلى الدرج، وفتحه ثم أغلقه بسرعة، ثمّ صرخ فيّ بصوتٍ عالٍ وهو يشير إلى فمه:

– ” هيي، أطعم مخلوقاتك ” .

ثمّ خرج من غرفتي غاضباً..

فتحت الدرج، ووجدت كل من كتبت عنهم في القصة ممددين خارج الدفتر، جوعى، عرايا، عطاشى، بعضهم كان يصرخ من الألم، بعضهم كان يوجّه لي الشتائم والسباب ويلعنني عند الله، بعضهم قفز من سور الكومودينا وهرب، ووجدت البعض الآخر ميّتاً بين السطور..

كلهم كانوا ينظرون إليّ بعتب شديد، وبغضب شديد.

فهمت عندها ماالذي كان يقصده الرجل الكبير؛ بأن أطعم مخلوقاتي، كان يقصد أن أكمّل ما كتبت مهما حدث، أن أغذّي أفكاري وكلماتي وشخوصي والأحداث، حتّى لا أفقد شخصاً آخر.. حتّى لا أفقد شخصيّة أخرى.

حتّى لا أفقد فكرة، ومهما كلّفني الأمر يجب أن أستمرّ في الكتابة، وألا أنسى نصّا في درج.

ناديت كل من كتبت باسمه الذي أعرف، وبدأت في عدّ الموتى، والمرضى، ودفنت من دفنت، وداويت من داويت، وأكملت الكِتابة، كنت أفتح درجي كلّ يوم، وأطعم كلّ من في الدفتر وأسقيهم حبراً وكلاماً، ثمّ أنام ..

وبرغم أن الأحداث تغيّرت لأني فقدت العديد من الشخصيات، إلا أنّني تعلّمت أول درس في الكتابة:

ألا أنسى إطعام مخلوقاتي كلّ يوم.

ماعاد عميقاً صدر أبي .

350406814

زامل سرحان
1359 – 1434
——————————————————-

كان جدّي الكلام , وكان أبي البئر .

كان بئراً عميقاً لدرجة أنّ حسين سرحان لم يكُن يلقي أيّ شيء فيه , بل كان يخلع كل ملابسه , و يأخذ معه كل همومه , وكل علاقاته , وكل أسراره , ويُلقي بنفسهِ دفعة واحدة داخله , ويغيب عنّا يوما واحداً , او اثنين , ثم يعود للدنيا مبللا بالشّعر وبالكلام الجميل .

لكن جدّي لم يعد بعد يوم أو اثنين منذ آخر مرة قفز فيها إلى صدر أبي , قفز وفي يده حقيبة سفره وبكامل ملابسه هذه المرة ..

منذ أن غاب حسين سرحان آخر مرة في العام 1413, لم يعد ; وبكى عليه زامل بطريقة مختلفة وغريبة أفزعتني , حيث كان الماء يدخل إلى عينيه ولا يعود ; أصبح هذا النوع من البكاء مألوفا لديّ الآن .

الآن مضى على غياب جدّي عشرون سنة ولم يعد من داخل البئر , وفهمت أن جدّي توفّى , وفهمت أن أبي توقف عن البكاء , ومرض البئر بعدما مات الكلام .

قبل خمس سنوات ماعاد عميقاً صدر أبي , وكنّا نُلقي في داخله كلاماً وندعو ربّنا أن ترتد إلينا قصيدة ..
وكان الكلام يعود سريعاً , وحيداً , وجافاً , وبلا أي قصيدة برفقته , ماعاد عميقاً بئر جدّنا , وفهمنا أيضا وقتها أنّ البئر لا يعيد سوى كلام صاحبه الذي ألقى بنفسه فيه منذ عشرين سنة ولم يعد .

قبل أيّام عندما وقفنا على القبر المفتوح أنا وإخوتي لم نذرف دمعة واحدة , أصبحنا نعرف أنّ بئراً بذاك العمق لا يمتليء بهكذا ماء .

فبدأنا نبكي مثلما كان يبكي هو , بطريقة مختلفة , وغريبة , ومفزعة , كان الماء يدخل إلى أعيننا ولا يعود .

الكِتابة من غير أجنحة .

حتّى أتقن الكتابة وحدي , كان يجب أن أقوم بالقفزة الأولى وحدي
حدث هذا منذ سنوات طويلة جداً , قفزت ورفرفت كثيراً ولم أرتفع أي سنتيمتر في الهواء .
بل وقعت على منقاري .
لم أتحدث مع أحد عن خيبتي الكبيرة , ولم أعرف كيف أرجع للعش الذي بناه جدي لي , لكنّي تسلّقت الشّجرة مليئا بالخدوش ومليئاً بالإهانات الكثيرة , كان عاراً على عصفور أن يتسلق شجرة ,

كنت مضطرا لهذا .

عار على مخلوق بأجنحة أن يتسلّق شجرة جنبا إلى جنب مع الزواحف والجرذان والسناجب .
كان ” شكلي بينهم ” شاذا ومثيرا للضحك أيضاً .

لكنّي لم أهتمّ , وصعدت , وقفزت مرة أخرى , وسقطت مرة أخرى , وتسلّقت الشجرة مرّة أخرى .

حتّى قُمت بأوّل رحلة طيران .

كِتابة أوّل نصّ بشكل سليم , شيء أشبه بالطيران بلا أجنحة .

كيف ستبدوا الكِتابة بعد الأربعين .


[ … إنّ الـكِـتـَابـة بالنسبة إليّ ; تشبهُ المشيَ على حبلٍ في أعلى خيمة سيـرك ..
مُغامرة , رَشاقة , توازن , توازن , توازن , لُهاث , ارتباك , اختلال , حبس أنفاس , و .. أحياناً نهاية أليمة على الأرض … ]

في العشر سنوات الأولى كنت أراقب جدّي وهو يقفز ببراعة , كان يطير كساحِر من رفّ لآخر في مكتبته الكبيرة .. وكان يطلب منّي فقط أن أتفرّج , أن أقرأ , أن أقرأ , أن اقرأ ..
أن أقرأ فقط ..

كان صالونه خيمة سيرك ..
كان يخاف عليّ إن صعدت معهُ على الحِبال وأنا بهذا الحجم , وهذا العُمر ; أن أهوي من أوّل سطر .

كان كلّ ما هو مطلوبٌ منّي أن أراقب ما يجري , وأستمتع بالعرض الكبير ..
وكنت أقيس المسافة بين السّما وبين الأرض .. كنتُ أفعل ذلك وأدعو الله ألا يقع جدّي من هذا العلوّ .

لكنّ جدي كان يمشي على الحِبال بسرعة ..
كمؤمن على الصّراط ..
كان يقفز على الرّفوف بخفّة ..
كأرنب على جدار ..

كان يعرف أنّ القصيدة تنتظره في آخر السّطر ..
كان يمرّ على الكلام بسرعة ورشاقة وعذوبة ..
مثل البرق , مثل الماء , مثل الضّوء , مثل اللحظات الجميلة في هذه الدّنيا ..
وكان يزن القصائِد بالعصا التي يمسكها بيده .

صالون جدّي كان خيمة سيرك كبيرة
ملأى بالمهرجين والسّحرة والبهلوانات .

كان يزورنا بانتظام حمزة شحاته , ومحمد حسن عوّاد , وطاهر زمخشري , وحسن عبدالله القرشي , وحمد الجاسر , وأحمد عبدالغفور عطّار … وغيرهم .
كلّ هؤلاء السّحرة , ولاعبي الخفّة في فنّ الشّعر والقصّة والمقالة ; يؤدون ” نمرهم ” في بيتنا ..

وأنا أتفرّج فقط .

في تلك المرحلة كان محظوراً عليّ أن أضايقهم , أو أن أصعد على الحِبال معهم , أو أن أضع رأسي في فمّ واحدٍ منهم .
كان جدّي يقول لي :
” لا تقترب أكثر مّما هو مطلوب منكِ يا إبني , لا تضع رأسك في فم شاعر , أخشى أن يلتهمك أحدهم ” ..

كنت صبيّ هذا السيرك , أعُدّ الحبال وأشدّها .
أجهّز لهم ملابس العرض , والماكياج , وساحة الاستعراض الكبير كلّ يوم ..
وفي الاستراحة كنت أسقيهم الماء والشّاي والقهوة , وأحضّر لهم وجبة العشاء ..

في العشر سنوات التّالية , وعند انتهاء العرض , وتفرّق الجمهور , كان جدي يقفل خيمته وينام .
وأنا كنت أمدّ أول سطوري في ” الهوا ” دون أن يعرف , وأحاول أن أمشي عليه إلى الضفّة الأخرى من الشّعر .

لم يكن الارتفاع عالياً في البداية , لكنّني كنت أقع برغم ذلك .

الخوف , وهيبة المسرح , والجمهور , وتجسّد أشباح هؤلاء الكبار أمامي , وصوت جدّي وهو يحذّرني من تسلّق السلّم , والمشي على الحبال لوحدي ..

جعلوني أصعد لأعلى الخيمة خفية , كنت أكتب قصائدي الأولى في السرّ .

سقطت كثيرا من على السّطور , لكنني في كل مرّة كنت أقف على قدميّ ..
أكثر قوّة , وأكثر رشاقة , وأكثر خفّة , وأكثر سرعة , وأكثر براعة ..

في نهاية العشرينات , كنت أتهيأ لإنهاء المرحلة الثالثة من عمري ودخول نادي الثلاثين .. وكان جدّي قد توفّى .

لم يسقط من الحبل , عارٌ عليه إن سقط من فوق .
عارٌ على الأدب وعلى الكِتابة وعلى الفنّ أن يسقط شاعر بهذه البراعة .
حتّى سن الثمانين , كان هذا البهلوان يتأرجح من سطر لسطر , ومن قصيدة لأخرى , ويخطف الأنفاس والتصفيق ..

مات العجوز , …..
بهدوء ..
وورثت عنه اللعبة مبكّراً , ..
كان يجب أن يعمل أحدنا في المجال حتّى ” يمشي ” سوق شعرنا في العائلة ..

ورثت عنه ملامحه الحزينه , ورأسه المرفوعة , وعزّة نفسه , ونحالة جسمه , ومشيته , وصوته , وضحكته , وعينيه , وشويّة شِعر , وشويّة عِند , وشويّة كرامة , وشويّة جنون ..

مات وأعطاني الكلمة وأعطاني الحبل .

كيف ستصبح الكتابة في الاربعين ؟! ..

أعتقد أنّي سأصبح بهلوانا آخرَ في سيرك الكِتابة .
” مضحك جداً , وحزين جداً ” .

لكنني سألقى حتفي من أعلى مكانٍ في الخيمة .

مُدّ يديكَ وضَعْ لي جريدة

حسين سرحان في مكتبته بمكة المكرمة - Copy

أنكرتُ من كتبي ما كنت آلفُهُ :: ما لم أبعهُ فقد أطعمتُ نيرانا
أاَكل العيشَ أم أُعنَى بفلسفةٍ :: لَشَدَّ ما كنت يا ” سرحان ” غلطانا .


حسين سرحان

——————————

هذا الرّجل , الذي لمّا وقفت أمامه جائعاً وصغيراً رمى عليّ عباءته , وسقطت عليّ مثل ليل بارد ولطيف ..

أنا أفتقدهُ كثيراً , وإلى الآن بعد مرور 17 سنة على وفاته , لا زلت أحلم وبشكل متكرر أنّه يضع لي الصّحف اليومية بعدما يفرغ من قراءتها بجوار ” الثلاجة ” , كما كان يفعل دوماً , وكأنه يعرف أن فأره الصغير الذي يأكل الكتب والورق سيمرّ بعدما ينام كل من في البيت , ويقرض ما تبقى من أخبار الصباح , ..

كنت أعرف مواعيد نومه , ومواعيد صحوه . وعندما ينام كنت أحبوا على يدي وقدمي إلى الفراغ الذي كان بين ثلاجته وبين حوض الغسيل لآخذ الصحف اليومية , كنت أتحرك بخفّة وخبث وخوف , مثلما يتحرّك فأر باتّجاه قطعة جبن .

لكنه كان يعرف مواعيد وصولي ولا ينام ! , وكان يراقبني بحذر شديد
كان جدّي يريد أن يستأنس الفأر , قارض الكتب في داخلي , فأن يخاف طفل صغير من أن يقبض عليه صاحب البيت بجريمة أكل صفحتين , خطيئة كبيرة في ديانة جدّي , لذلك حاول كثيراً أن يتآلف معي , وأن يقنعني أن التعايش بين الفأر وبين السيّد والكتب الكثيرة هو أمر ظريف .

لازلت أحبوا كثيرا في منامي

الصغير مازن , الكبير حسين

وأنا صغير؛ صَعُبَ عليّ كثيراً أن أغازل القصائِد التي تجلس قُرب جدّي ”رحمه الله” ،..

كان صعباً عليّ أن أتحرّك بسُرعة وبخِفّة؛ أن أميل وأُلقِي بمنديلٍ مكتوب فيه ” كلمتين حلوين”، وأهرب..

أن أدُسّ في يدّ أيّ منهنّ بطاقةً تحمل اسمي، ورقم هاتفي، وبيتينِ شعر، ووردة، وأهرب..

بينما جدّي _ في الوقت نفسه _ كان يغمسُ سبّابتهُ في قارورة عطر ويكتب البيتَ وراء البيت على أجسادهنّ، ..

خِفت إن تحرّشت بقصيدة أن تسخرَ منّي، ثمّ ”تفتن” عليّ عند

جدّي..

خفت إن حاولت أن أقفَ أمام شاعرٍ بقامة جدّي؛ أن يدوسَني بشِعره ويمشي عليّ أمامهنّ دون أن يشعُر..

لكنّني في كلّ ليلة وبعد أن ينام، كنت أسرق قارورة العِطر، وأعدّ أصابِعي، وأكتُب.

لذلك دعوني أكشف لكم سِرّا.!

حينما كَبُرت وبدأتُ أخرِجُ النّساء، والنّجوم، والوردَ، والأطفال، والحلوى، والخُيول، والطّيور، والسّناجب، والأشجار، والمطر من أكمامي أمامكم؛ لم أكُن أمارس السّحر، أو خِداع البصر، أو خفّة اليد..

حدث ذلك لأنني ربّيت في كُمّي قصائِدَ كثيرة وأنا صغير دون أن يعرف أحد.. و .. ”من ورا جدي”، ..

جدّي الذي ماتَ دون أن يكتشِف أنّ حفيده ذا العشر سنين .. كان ” يكتُمُ شِعراً ” داخلَ كُمّه، ..

مات دون آن يعرِف أن حفيدَهُ الصّغير الآن استطال كقصيدة، وانتظمَ كقافية، وقال شِعراً.